كنوز نت - بقلم رانية مرجية


 قراءة نقدية لنص الشاعر علاء سعود الدليمي ( العراق )
قراءة معمّقة لقصيدة «دائمًا أسيرُ وحدي»: النص يقرأ ذاته
بقلم رانية مرجية
تمهيد: القصيدة بوصفها عالمًا مكتفيًا
في قصيدة «دائمًا أسيرُ وحدي» يقيم علاء سعود الدليمي عالمًا شعريًا قائمًا بذاته، لا يحتاج إلى إحالات خارجية لتفهمه. يمتلك النص قدرة على أن يكون عالمًا مغلقًا تنعكس فيه حركة الذات والأشياء، وتتفاعل فيه العناصر الطبيعية والوجودية ضمن شبكة رمزية متماسكة. في هذه القراءة المعمّقة، والتي أكتبها عن قرب وبقلب ناقدة وشاعرة، أنطلق من النص نفسه لأفكك استعاراته وبناءه الصوتي والدلالي، معتمدة على العلاقات الداخلية بين صوره وأجزائه.
السير والوحدة: من الفعل الجسدي إلى المعنى الوجودي
المشهد الافتتاحي “دائمًا أسيرُ وحدي” يرسم حركة جسدية واضحة، ولكن سرعان ما تنقلب إلى حالة وجودية. الفعل “أسير” يحمل الإيحاء بالعزم والمضي نحو هدف، بينما ظرف “دائمًا” يثبّت هذه الحركة في إطار دائم يقترب من القدر. أما مفردة “وحدي” فتلغي فكرة المرافقة البشرية، لكنها لا تعني العزلة التامة، لأن النص يصرّ بعد قليل على وجود “أشجارٍ من الذّاكرة” ترافق هذا السير. الوحدة هنا ليست انعزالًا كاملًا، بل اختيار للتواصل مع ذاكرة تصبح كائنًا حيًا يرافق الشاعر في سيره. هذا التناقض بين العزلة والحضور يهيئ القارئ لثنائية ستتكرر: الذات في مواجهة العالم، الفرد في مواجهة الجماعة.
أشجار الذّاكرة والثمار المنهوبة
حين يصف الشاعر رفقته بـ”أشجارٍ من الذّاكرة” يحمّل الذاكرة ثقلًا ماديًا؛ فهي ليست صورًا عابرة بل كائنات لها جذور وفروع وثمر. هذه الأشجار تنتج “ثمرًا” يتوزع بين ما نضج وأُعطي للآخرين وما بقي رفيقًا للشاعر. هنا لا يتحدث الدليمي عن سلبٍ عابر، بل عن حصادٍ جمعه آخرون. الثمر يمكن أن يمثل الإنجازات الشخصية التي تنسب لمن لم يبذل جهدًا، أو يمثل الأصدقاء والأهل الذين فقدناهم. في المقابل هناك ثمرٌ صار رفيقًا فيسأله عن ماضٍ “قد شاخ”، مما يضفي على الذكريات صفات بشرية؛ فهي تهرم وتلتمس من الشاعر الاعتراف بها قبل أن يطويها النسيان.
الحوار مع الذاكرة: محاولة للتملص
يتصاعد التوتر عندما تتدخل الذات الشاعرة في الحوار: “ولما ألجّ في السؤال/ أخبرته أنه هناك/ قرب تلّة الخلود”. يتعمد الشاعر عدم الإجابة على أسئلة الذاكرة، ويوجهها إلى مكان بعيد يرتبط بالخلود. يشير هذا إلى رغبة في تأجيل مواجهة الماضي أو ترحيله إلى مجال يتجاوز قدرة الإنسان على الفهم. “تلّة الخلود” قد تكون استعارة للموت أو للذاكرة الجمعية التي تحفظ ما لا يستطيع الفرد حمله. يعكس هذا المقطع ميل الشاعر إلى استحضار صور جغرافية لتفسير حالات نفسية؛ فالتلّ مكان مرتفع، والخلود مفهوم أبدي، والجمع بينهما يوحي بوجود مكان عالٍ تحفظ فيه الأسرار.
سؤال النبض في اللحود: جدلية الحياة والموت
يطرح الشاعر سؤالًا مباشرًا: “فهل رأيتَ نبضًا في اللحودِ؟”. هذا السؤال يشكك في إمكانية استمرار الحياة في القبور، لكنه ينقلب مباشرة إلى إجابة تقطع الشك: “نعم، ففي الشعرِ خلود!”. هنا يظهر جوهر الرؤية الشعرية للدليمي: الشعر قادر على منح الحياة لما هو ميت. النبض يصبح استعارة للمعنى، واللحود ترمز إلى النسيان أو السكون، لكن الشعر يخلق تواصلاً بينهما. هذه الحركة من السؤال إلى الجواب تكشف عن بناء جدلي يعتمد على إثارة الشك ثم إبطاله ببيان قاطع. كما تؤكد أهمية الشعر بوصفه فعل إنقاذ للذاكرة من الموت.
الحبّ الثابت والريح العابرة
بعد تأكيد خلود الشعر، ينتقل النص إلى الثبات العاطفي: “الحبُّ الصّادقُ لا يميلُ مع الرّيحِ، جذرهُ ثابتٌ وفرعهُ يعانقُ السّماء”. يقدم الشاعر صورة للشجرة ذات الجذور العميقة والفروع العالية، فيربط بين الحب والأرض والسماء. الجذر يمثل الأصالة والرسوخ، والفرع يعبر الحدود نحو الأعلى. اختيار الريح كعنصر مضاد يبرز قوة الحب؛ فهي قوة عابرة لا تستطيع اقتلاع من تجذّر. بهذا يوسع النص وظيفة الأشجار في القصيدة: فهي ليست فقط ذاكرة، بل أيضًا رمز للحب المتجذر الذي يقاوم تقلبات الظروف.
جفاف الغصن وعودة المطر
التساؤل “أنّى لغصنٍ شحَّ عنهُ الماءُ/ أن يورقَ من جديد؟” يضعنا أمام معجزة منتظرة. الجفاف لا يتعلق فقط بنقص الماء؛ إنه غياب للغذاء الروحي والعاطفي. النص لا يترك السؤال معلقًا، بل يجيب: “لا بدَّ أن يعودَ المطرُ، لتبتهجَ الأرواحُ فتشربُ الغيم كلّما انهمر!”. هنا يتحول المطر إلى وعد بالخلاص؛ فهو لا يروي الأرض فحسب، بل تسقي الأرواح الغيم. كلمة “الغيم” تستخدم ككائن شراب، ما يجعل العلاقة بين السماء والأرواح علاقة مباشرة. هذا التحول في الفاعل (من الغصن إلى الأرواح) يشير إلى أن التجدد ليس حدثًا فرديًا، بل جماعيًا: عندما يأتي المطر، تحتفل الأرواح معًا وتشرب الغيم.
سرقة الزمن وجيوب الشغف
أكتب هذه القراءة وأتوقف أمام العبارة: “أسرقُ الزمنَ بعضًا منهُ؛ لأدسَّ في جيبي الكثيرَ من الشغفِ”. هذه الصورة تدمج بين المادي والمعنوي بشكل مدهش؛ فالزمن يُسرق، والشغف يُدسّ في الجيوب. السرقة هنا تعني اقتناص لحظة من عمر متسارع لتملأها بالحب أو الإبداع. استخدام فعل “أدسّ” يوحي بالحذر والمتعة في آن؛ كأن الشاعر يخبئ شغفه لكي لا يراه أحد. هذه الصورة تعكس وعياً بأن الشغف ليس مجانيًا، وأن الحصول عليه يحتاج إلى مواجهة الزمن وسرقته، وكأن الزمن خصم للشاعر.
العودة إلى الشجرة والرحيل خارج النص
يختم النص بجملة بصرية وحسية: “مع غروبِ الشمسِ/ أعودُ لحضنِ شجرتي”. العودة إلى الشجرة تعني عودة إلى الأصل والسكينة. يستمر الشاعر: “أتأمّلُ أغصانها كيفَ تعانقُ رغبتي/ أخلعُ ثيابَ قلقي/ لأتدثّر بأوراقها”. هذه الأفعال (يتأمل، يخلع، يتدثّر) ترمز إلى عملية تطهير: إذ يخلع قلقه كما يخلع الملابس، ويتغطى بأوراق الشجرة التي منحته الذكريات والحب. “وهي تنسدلُ بهدوء/ نحوَ أرضي الرّطبةِ” يربط بين الشجرة والأرض، بين الحماية والرطوبة التي تعني الخصوبة والاستمرارية. أخيرًا يعلن: “فـأسافرُ خارجَ النّصّ”. هذا الخروج من النص يعني الانتقال من اللغة إلى تجربة داخلية؛ الشعر هنا يقود إلى ما بعد اللغة، إلى حالة تأملية تتجاوز الكلمات. السفر خارج النص لا يلغي الكتابة، بل يؤكد أن القصيدة نفسها باب لعالم آخر.
خاتمة
كسيدة قراءة وشاعرة، أرى أن القصيدة تعتمد على شبكة من الصور المتكررة (السير، الأشجار، الثمر، الغصن، المطر) التي تتفاعل فيما بينها لتحمل دلالات متعددة عن الذاكرة والحب والزمن. يستغل الشاعر التكرار والحركة بين السؤال والجواب ليصنع إيقاعًا جدليًا يشد القارئ. يربط بين الطبيعة والمشاعر، بين الجسد والروح، وبين النص وما بعده. من خلال هذه القراءة، تبدو القصيدة كدائرة تبدأ بالسير وتنتهي بالسفر خارج النص، ليبقى العالم الشعري مفتوحًا على تأويلات جديدة.
النص :
خارجَ النصِ
دائمًا أسيرُ وحدي
برفقةِ أشجارٍ من الذّاكرة
ذاتِ ثمرٍ بعضُهُ نضجَ
لكنَّ القدر وهبهُ لغيري،
وبعضٌ منهُ صارَ رفيقي
يسألني مرات عدة
عن ماضٍ قد شاخَ،
ولمّا ألجّ في السّؤال
أخبرتهُ أنّهُ هناكَ
قربَ تلّةِ الخلودِ
فهل رأيتَ نبضًا في اللحودِ؟
نعم ففي الشّعرِ خلود!
الحبُّ الصّادقُ

لا يميلُ مع الرّيحِ،
جذرهُ ثابتٌ وفرعهُ يعانقُ السّماء.
أنّى لغصنٍ شحَّ عنهُ الماءُ
أن يورقَ من جديد؟
لا بدَّ أن يعودَ المطرُ،
لتبتهجَ الأرواحُ فتشربُ الغيم كلّما انهمر!
أسرقُ الزّمنَ بعضًا منهُ؛
لأدسَّ في جيبي الكثيرَ من الشّغفِ.
مع غروبِ الشمسِ
أعودُ لحضنِ شجرتي،
أتأمّلُ أغصانها كيفَ تعانقُ رغبتي،
أخلعُ ثيابَ قلقي
لأتدثّر بأوراقها
وهي تنسدلُ بهدوء
نحوَ أرضي الرّطبةِ
فـأسافرُ خارجَ النّصّ.