.jpeg)
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
الرواية كجسد حيّ للفكر:
قراءة فلسفية في كتاب "البنية الروائية: من الأسس إلى التناص" للدكتورة سناء عز الدين عطاري
- بقلم: رانية مرجية
- مدخل: حين يصبح النقد فعلَ مقاومة ثقافية
في زمنٍ تتكاثر فيه الروايات كسلعٍ لغويةٍ في سوق الأدب، ويذوب النقد في صخب الجوائز والمهرجانات، تأتي الدكتورة سناء عز الدين عطاري بكتابها الجريء «البنية الروائية: من الأسس إلى التناص» لتعيد للنقد العربي روحه المفقودة. هذا الكتاب ليس بحثًا أكاديميًا فحسب، بل صرخة فكرية راقية تؤمن بأن الرواية ليست حكاية تُروى، بل كائن حيّ يتنفّس الوعي والروح والمعنى. من بين صفحاته ينبض سؤال وجوديّ واضح: هل نكتب الرواية، أم أن الرواية هي التي تكتبنا؟ بهذا السؤال، تضع عطاري القارئ أمام جوهر التجربة الإنسانية: أن السرد ليس مجرّد نصّ، بل تجسيدٌ لحركة الفكر وهو يواجه العالم.
- الرواية كوعي متحوّل لا كقالب جامد
تنطلق عطاري من مفهوم "البنية" لا بوصفه مصطلحًا لغويًا أو هندسيًا، بل كنسقٍ حيّ يجمع العناصر الروائية في وحدةٍ متحركة. هي ترفض فكرة أن الرواية مجرد بناء لغويّ يمكن تفكيكه بمعزل عن الروح، وترى أنها حالة وعيٍ متحوّل يعيش داخل الإنسان قبل أن يُسطر على الورق. من هنا، يتحوّل النقد عندها إلى شكل من أشكال التأمل الوجودي، لا إلى تحليلٍ تقني بارد.
- من البنيوية إلى الوعي البنائي: نقدٌ عربيّ متجدّد
تتجوّل عطاري بين البنيوية والسيميائية والتناص، لكنها لا تسير في خطّ تبعيّ للمدارس الغربية. بل تمارس نوعًا من التمرد الفكري الرصين، إذ تحاور باختين وتودوروف وبارت، دون أن تُستلب أمامهم. إنها تُنصت لهم، ثم تُجيبهم من موقعٍ عربيّ، بلغةٍ مشبعةٍ بالروح الشرقية والوعي النقدي المعاصر. وكأنها تقول: لسنا بحاجة إلى نقدٍ مستورد، بل إلى عقلٍ عربيّ قادر على مساءلة ذاته. هكذا يغدو الكتاب بيانًا نقديًا جديدًا يعيد للنقد العربي كرامته الفكرية بعد أن كاد يتحوّل إلى ملحقٍ للمدارس الغربية.
- التناص الديني: حين يدخل المقدّس في حوارٍ مع الإنسان
في فصله المتعلّق بالتناص الديني، ترتقي عطاري إلى مستوىٍ فكريّ نادر في النقد العربي. هي لا تتعامل مع النص القرآني كمصدرٍ اقتباسيّ، بل كبنية روحية تسكن في عمق النص الأدبي، وتعيد تشكيله من الداخل. ومن خلال قراءاتها لأعمال غازي القصيبي وأحلام مستغانمي، تكشف عطاري أن النص الديني ليس حضورًا زخرفيًا، بل تجسيدٌ لقلق الإنسان أمام المطلق، ومحاولة للبحث عن المعنى في زمنٍ فقد فيه الإنسان يقينه. هنا يتحوّل التناص إلى رحلة فلسفية، حيث يلتقي المقدّس واليومي، الغيب والواقع، في حوارٍ لا نهائيّ بين الروح والكلمة.
- الرواية والمرأة: من الجسد إلى الخطاب
وراء كل فكرةٍ في هذا الكتاب، هناك أنثى تُفكّر لا لتعارض الرجل، بل لتستعيد حقّها في التفكير بحرية. تكتب عطاري من موقع المرأة التي كسرت القوالب، ورفضت أن تكون الكتابة النسوية صرخةً احتجاجية فحسب، بل مشروعًا معرفيًا يقدّم بدائل فكرية وجمالية. إنها تؤمن أن الأدب ليس مساحة للمساواة بقدر ما هو فضاء للاختلاف الخلّاق، حيث يحقّ لكلّ صوت أن يكون نغمةً مستقلة في سيمفونية الإنسانية.
جماليات اللغة النقدية: حين يصبح الفكر شعرًا
لغة عطاري مدهشة: لا تكتب كمحاضِرة جامعية، بل كعاشقةٍ للفكر تمارس النقد كما يمارس الشاعر طقوس القصيدة. جملها تتنفّس بإيقاعٍ موسيقيّ دقيق، لكنها مشحونة بالمعرفة. هنا، يصبح النقد عملًا فنيًا في ذاته، لا أقلّ جمالاً من النصوص التي يتناولها. اللغة عندها ليست أداةً للفهم فقط، بل وسيلة للخلاص.
- النقد كفعل مقاومة للسطحية
الكتاب يرفض المسلّمات السهلة، ويدين القراءات المعلّبة التي تختصر الرواية في موضوعٍ أو حدث. إنه يعلن الحرب على الكسل النقدي الذي حوّل بعض النقاد إلى موظّفين في مؤسسات لغوية، لا إلى مفكرين أحرار. وعليه، يبدو هذا العمل كأنه مانيفستو ثقافي عربي جديد، يدعو إلى استعادة جوهر النقد بوصفه عملًا تحرريًا من الجهل والتبعية والسطحية.
- خاتمة: البنية التي تنهض منها الثقافة
لا يمكن اعتبار كتاب «البنية الروائية: من الأسس إلى التناص» مجرد دراسة في الشكل الأدبي، بل هو مشروع نهضويّ مصغّر يعيد الاعتبار للفكر العربي. فمن خلال مزجها بين العلم والجمال، بين الدين والخيال، بين التراث والمعاصرة، تؤسس عطاري لنقدٍ عربيّ يحتفي بالإنسان بوصفه معنى لا قالبًا. هذا الكتاب سيبقى في ذاكرة النقد العربي، لأنه لا يفسّر النصوص فحسب، بل يفسّر وعينا نحن بها؛ ولعلّ أعظم ما قدّمه أنه جعل من النقد حوارًا مفتوحًا مع الحياة نفسها.
—
رانية مرجية
كاتبة وناقدة ثقافية
تكتب في الفكر والهوية والإنسان، وتؤمن أن الأدب ليس ترفًا، بل ضرورة للبقاء.

08/11/2025 12:29 pm 30
.jpg)
.jpg)