كنوز نت - بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.


الألفاظ حصون المعاني، هل العلاقة بين اللغة والفكر علاقة اتصال أم انفصال؟
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
في البداية ننطلق من أنّ الألفاظ حصون المعاني وعلاقتها بجدلية اللغة والفكر.
إن المعاني في طبيعتها أشبه بشرارات البرق: تومض فجأة في سماء الفكر ثم تميل إلى الخفوت والانطفاء، ولا سبيل إلى تثبيتها في الذهن أو حفظها من التلاشي إلا إذا وجدت ما يحتضنها ويحميها. ومن هنا جاءت اللغة، فهي ليست مجرد أصوات عابرة أو رموز صمّاء، بل هي حصون متينة تُشيَّد حول المعاني لتحفظها من الذوبان، وتجعلها قابلة للتداول والفهم. وإذا كان الفكر هو الشرارة، فاللغة هي المصباح الذي يحتفظ بضيائها.
هذه الفكرة تضعنا أمام سؤال فلسفي قديم حديث: هل اللغة والفكر متصلان اتصال الهوية بحيث لا وجود لأحدهما دون الآخر؟ أم أن الفكر أوسع من اللغة، وأن الألفاظ تعجز عن احتواء المعاني كلها؟
-- الموقف الأول: الانفصال بين اللغة والفكر:

ذهب كثير من الفلاسفة، أمثال برغسون وديكارت وياسبرز، إلى أنّ الفكر سابق على اللغة وأوسع منها. فالإنسان كثيراً ما يجد نفسه أمام طوفان من المعاني يتزاحم في ذهنه، لكنه يقف عاجزاً عن صوغها في كلمات دقيقة. يقول برغسون: «إننا نملك أفكاراً أكثر مما نملك أصواتًا». وهذا دليل على أن الفكر يتجاوز حدود اللغة.
كما أنّ التجربة الوجدانية للإنسان تكشف محدودية الألفاظ؛ فالأم عندما يفيض قلبها بالفرح لنجاح ابنها، قد تعجز الكلمات عن حمل ما في وجدانها، فتذرف دموعاً أبلغ من كل خطاب. وهكذا تُظهر التجربة أن اللغة أحياناً «قبور للمعاني» أكثر منها جسوراً إليها.
-- الموقف الثاني: الاتصال بين اللغة والفكر:
في المقابل، يرى هيجل ودي سوسير وكوندياك وغيرهم أنّ الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة. فالأفكار لا وجود لها خارج إطار اللغة، إذ أن المعنى لا يصير معقولًا إلا إذا أُلبس ثوب اللفظ. يقول هيجل: «الكلمة تمنح الفكرة وجودها الحقيقي».
والحق أن الطفل لا يبدأ بالتفكير في العالم إلا عندما يتعلم أسماء الأشياء. فالمعرفة تنمو بنمو المفردات، وكلما اتسعت حصيلة الإنسان اللغوية، اتسعت معها آفاقه الفكرية. اللغة إذن ليست مجرد حصن يحفظ المعاني، بل هي التي تمنح الفكر كينونته وشرعيته.
-- نحو تركيب متوازن:
إن القول بانفصال اللغة عن الفكر فيه مبالغة، كما أن اعتبارهما شيئًاً واحداً فيه إجحاف. فالمعاني قد تومض في الذهن بصورة أولية غامضة قبل أن تصاغ في ألفاظ، لكنها لا تكتمل ولا تصير قابلة للتداول إلا إذا دخلت في حصون اللغة. فاللغة تحفظ الفكر من التبخر، كما يحفظ الجسد الروح من الضياع. ولهذا قال ماكس مولر: «اللغة والفكر كقطعة نقدية واحدة: وجهها الأول الفكر ووجهها الثاني اللغة، وإذا فسد أحد الوجهين فسدت القطعة كلها».
---خاتمة:
إن الألفاظ حقّاً حصون المعاني، تحميها من التلاشي وتمنحها القدرة على الحياة في عالم مشترك بين العقول. والعلاقة بين اللغة والفكر ليست انفصالاً تاماً ولا تطابقاً كليّاً، بل هي علاقة جدلية تكاملية: فالمعنى يولد أولًا كالبرق، لكن اللغة هي التي تثبته وتجعل له أثراً باقياً. وهكذا نخلص إلى أن الفكر يصنع اللغة بقدر ما تصنع اللغة الفكر، فلا وجود لأحدهما دون الآخر، تمامًا كما لا وجود لروح بلا جسد، ولا لجسد بلا روح.