
كنوز نت - بقلم : الدكتورة فاطمة ابوواصل إغبارية
الإعلام والمجتمع – من التطبيع مع العنف إلى هندسة الوعي
كيف تحوّل الخطر إلى مشهدٍ يوميّ، والمأساة إلى “ترند”؟
بقلم : الدكتورة فاطمة ابوواصل إغبارية
—————-
لم تعد جرائم العنف تُفاجئنا، بل باتت تمرّ في نشرات الأخبار كما لو كانت مشاهد من فيلمٍ طويلٍ لا نهاية له.
حادثة مقتل الشاب في المدرسة لم تكن صدمة إعلامية بقدر ما كانت مرآةً لواقعٍ بات يتعايش مع القبح، ويستهلك الألم دون أن يتحرّك ضميره.
لقد لعب الإعلام والمجتمع — عن قصدٍ أو غفلة — دورًا محوريًا في تطبيع العنف وتحويله من استثناءٍ إلى قاعدةٍ عادية في الحياة اليومية.
أولاً الإعلام بين الرسالة والتسليع
—————-
1. الإثارة على حساب القيم
يبحث الإعلام المعاصر عن “المشاهدات” لا عن “الرسالة”. فيُضخَّم الحدث المأساوي، ويُعاد بثّ مقاطع القتل والعراك، وتُناقش التفاصيل الدموية على الهواء، دون اعتبارٍ لأثرها النفسي والاجتماعي.
وهكذا، تحوّل الألم الإنساني إلى سلعةٍ تُباع بترندٍ وعنوانٍ صادم.
2. التكرار الذي يقتل الحسّ الأخلاقي
حين تتكرر مشاهد العنف في الأفلام والألعاب والنشرات، يفقد المشاهد حسّه بالخطورة، ويعتاد الدم كما يعتاد الإعلانات. إنها عملية “تخدير جماعي” للضمير الاجتماعي.
3. صناعة البطل المجرم
في بعض الأعمال الدرامية، يُقدَّم المجرم أو الخارج عن القانون كـ”بطلٍ شعبيّ”، يُبرَّر فعله بالظلم أو الفقر. وهنا تكمن خطورة الرسالة المبطّنة: أن العنف وسيلة مشروعة للانتصار.
4. الإعلام الجديد ومواقع التواصل
لم يعد الإعلام حكرًا على المؤسسات، بل صار كلّ هاتفٍ منبرًا. تنتشر مقاطع التنمّر والاعتداء كوسيلة “للفضح” لكنها في الواقع تُعيد إنتاج الفعل، وتُغذي التقليد، وتخلق حالة من “الانتقام الافتراضي”.
ثانيًا: المجتمع كمرآة ومشارك في الأزمة
—————
1. تبرير العنف باسم الكرامة والرجولة
في الثقافة الشعبية، لا يزال الغضب يُعتبر “قوة”، واللين “ضعفًا”.
يُربّى الطفل على أن يردّ الضرب بالضرب، والشتيمة بالشتيمة، وأن “يسكت مرة ولا يسكت مرتين”، وهكذا تُزرع بذور العنف في القيم اليومية.
2. العادات التي تبرّر القسوة
بعض الممارسات التربوية والاجتماعية لا تزال ترى في العقاب الجسدي وسيلة للإصلاح، وفي العنف اللفظي وسيلة للتربية، مما يُكرّس دورةً مستمرة من الإيذاء عبر الأجيال.
3. الفراغ القيمي والروحي
حين يغيب الإيمان العميق بالعدالة والرحمة، يصبح الإنسان هشًّا أمام استفزازاتٍ بسيطة.
مجتمع بلا قيمٍ راسخة هو مجتمعٌ قابل للاشتعال عند أول احتكاك.
4. الإدمان على الإثارة السلبية
المجتمع الذي يتغذّى يوميًا على أخبار الجرائم والكوارث يفقد توازنه العاطفي.
يبدأ بإدانة الجريمة، ثم يعتادها، ثم يشارك في نشرها. وهنا يكتمل التحوّل من “الصدمة” إلى “اللامبالاة”.
ثالثًا: من التطبيع إلى الوعي – ما المطلوب من الإعلام والمجتمع؟
—————-
1. إعلام مسؤول يُعيد الاعتبار للإنسان
المطلوب ليس كتم الأخبار بل تغيير طريقة عرضها:
• تقديم القضايا بعمقٍ تحليلي لا بإثارةٍ سريعة.
• التركيز على الجذور الاجتماعية لا على صور الدماء.
• إبراز الحلول والمبادرات بدل تسويق الألم.
2. تربية إعلامية في المدارس والمنازل
يجب أن يتعلّم الجيل الجديد كيف يفرّق بين المعلومة والإثارة، بين الحرية والفوضى، وأن يُدرَّب على “أخلاقيات النشر والمشاهدة”.
3. إحياء الخطاب الثقافي والروحي في المجتمع
الإعلام لا يجب أن يُنظَر إليه بمعزلٍ عن المنظومة القيمية. فكلّما ضعف الخطاب الإنساني والثقافي في المجتمع، ازداد تأثير الإعلام السلبي.
لا بد من العودة إلى الخطاب الذي يُعيد للإنسان قدسيته، ويربط حرية التعبير بالمسؤولية الأخلاقية.
4. دور المؤسسات التربوية والدينية
يجب أن تُشارك في تصحيح المفاهيم المغلوطة:
• أن الرجولة لا تعني العنف.
• أن الكرامة تُصان بالحكمة لا بالصدام.
• وأن القوة الحقيقية في ضبط النفس لا في إيذاء الآخر.
5. إعادة هندسة الوعي الجمعي
الوعي لا يُفرض، بل يُبنى عبر الإعلام، والتعليم، والمجتمع معًا.
نحتاج إلى مشروع وطني ثقافي متكامل يُعيد صياغة المفاهيم حول العنف، ويحوّل الإعلام من ناقلٍ للحدث إلى صانعٍ للسلام.
رابعًا: نحو إعلامٍ يُنقذ لا يُؤذي، ومجتمعٍ يُربّي لا يُبرّر
—————-
الإعلام والمجتمع إمّا أن يكونا وقودًا للفتنة، أو ضميرًا حيًا للإنسانية.
حين يختار الإعلام أن يُنير بدل أن يُثير، وحين يختار المجتمع أن يُصلح بدل أن يُدين، عندها فقط يمكننا أن نقول:
لقد بدأنا نضع أيدينا على الجرح، لا لنواسيه، بل لنشفيه
10/11/2025 08:47 am 25
.jpg)
.jpg)