
كنوز نت - بقلم: سليم السعدي
محكمة الغربان… حين يصبح الطائر أعدل من الإنسان
بقلم: سليم السعدي
في عالمٍ تتهاوى فيه منظومات العدالة، وتتحول المحاكم إلى أدوات بيد القوة، تبرز مفارقة لافتة تضع الإنسان أمام مرآة قاسية: كائنٌ يُصنَّف تقليديًا رمزًا للتشاؤم، يقدّم نموذجًا للعدالة يفوق ما تمارسه دول ومؤسسات بشرية.
الغراب، ذلك الطائر الأسود الذي ارتبط في المخيال الشعبي بالموت وسوء الطالع، يُعدّ علميًا من أذكى الكائنات على وجه الأرض، ويأتي في مراتب متقدمة بعد الإنسان والدلفين. وقد خُلّد ذكره في النص القرآني حين بعثه الله ليعلّم الإنسان أول درس في احترام الميت ودفنه، بعد أول جريمة قتل في تاريخ البشرية.
بعيدًا عن الرمزية الدينية، كشفت الدراسات الحديثة عن منظومة اجتماعية مذهلة لدى الغربان، تقوم على التعلم، الذاكرة، التعاون، والالتزام بقواعد صارمة تنظم حياتها. فالغراب قادر على تمييز الوجوه البشرية، وتذكّر من أساء إليه حتى بعد سنوات، كما يعيش الذكر مع أنثاه شريكًا واحدًا طوال الحياة، في سلوك نادر حتى بين البشر.
الأكثر إثارة هو ما يُعرف علميًا وسلوكيًا بـ«محاكم الغربان». إذ تُظهر المراقبة الميدانية أن الغربان تعاقب أفرادها المخالفين وفق قواعد محددة.
فمن يعتدي على طعام الصغار يُعاقب بحرمانه من الريش، فيصبح عاجزًا عن الطيران، عقوبة تُشبه الجرم نفسه.
ومن يهدم عشًّا أو يستولي عليه، يُجبر على إعادة البناء.
أما الجريمة الأشد، وهي الاعتداء على أنثى غراب، فتعاقَب بأقصى العقوبات، حيث ينفّذ سربٌ كامل حكم الإعدام، ثم يُدفن الجاني، في مشهد يجمع بين الصرامة واحترام الموت.
ولا تتوقف العدالة عند هذا الحد. فإذا عُثر على غراب مقتول، يبدأ السرب بالبحث عن الجاني، ولا يُغلق الملف قبل العثور عليه ومحاسبته. لا حصانة، ولا قوة تعلو فوق النظام.
هذه الصورة تفتح باب المقارنة المؤلمة مع واقع الإنسان اليوم.
في عالم البشر، تُرتكب جرائم إبادة، وتُدمّر مدن كاملة، ويُقتل الأطفال والنساء، ثم تمرّ الجرائم بلا تحقيق حقيقي، ولا محاسبة عادلة.
القضية الفلسطينية، إحدى أوضح القضايا عدلًا في التاريخ الحديث، تعرّضت وما زالت لظلم مركّب: احتلال، حصار، قتل، تدمير ممنهج، وسط صمت دولي، أو تبرير فجّ باسم «الدفاع عن النفس».
جيوش تمتلك الطائرات الحربية، والسفن، والغواصات، تواجه شعبًا أعزل، ثم تنجو من المحاسبة، بدعم سياسي وإعلامي غربي، هو نفسه الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان والعدالة الدولية.
في هذا السياق، تبدو المفارقة صارخة:
الغراب، الذي وُصف يومًا بالشؤم، يطبّق ميزان عدلٍ فطري، لا يعرف التسييس ولا ازدواجية المعايير.
بينما الإنسان، الذي أُعطي العقل والشرائع والقوانين، فقد إنسانيته حين خان العدالة.
ليست القضية تمجيد طائر، ولا انتقاصًا من الإنسان، بل تذكير مؤلم بأن العدالة ليست نصوصًا مكتوبة، بل ممارسة أخلاقية.
وحين يفشل الإنسان في حمل هذه الأمانة، تصبح الطبيعة — بصمتها — شاهد إدانة.
23/12/2025 07:55 pm 16
.jpg)
.jpg)