كنوز نت - رانية مرجية


القدس: معيار الحق في زمن التواطؤ
رانية مرجية
ليست القدس موضوعًا للاختلاف، ولا ساحةً لتعدّد الروايات، بل حقيقة سياسية وأخلاقية تختبر صدقية العالم المعاصر. فما يجري اليوم في فلسطين، وخصوصًا في القدس، لم يعد قابلًا للاختزال في توصيفات من قبيل “تصعيد” أو “تطورات ميدانية”، بل بات مسارًا واضحًا يقوم على تكريس الاحتلال، وتفكيك الحق، وإعادة تعريف الظلم باعتباره واقعًا يمكن التعايش معه.
سياسات الاحتلال الإسرائيلي، من الاستيطان المتسارع في الضفة الغربية، إلى الاعتداءات اليومية على المدنيين، وصولًا إلى استهداف القدس ومقدساتها، تشكّل منظومة متكاملة تهدف إلى فرض وقائع دائمة على الأرض. وفي قلب هذه المنظومة، تتعرض القدس لمحاولة ممنهجة لعزلها عن محيطها الفلسطيني، وتغيير طابعها التاريخي والقانوني، في انتهاك صريح للقانون الدولي ولقرارات الشرعية الدولية.
المسجد الأقصى، بما يحمله من رمزية دينية ووطنية وإنسانية، يقع في صلب هذا الاستهداف. فالاقتحامات المتكررة، والقيود المفروضة على المصلين، ومحاولات فرض تقسيم زماني ومكاني، ليست أحداثًا طارئة، بل خطوات محسوبة ضمن مشروع تهويدي طويل الأمد، يُنفَّذ تحت حماية رسمية وبغطاء سياسي معلن.
ولا يقل خطورة عن ذلك، الخطاب المرافق لهذه السياسات، والذي يسعى إلى تمييع الحقيقة وتزييف الواقع. إذ تُقدَّم الاقتحامات بوصفها “زيارات”، والاعتداءات باعتبارها “إجراءات أمنية”، والاستيطان تحت مسمى “توسع عمراني”. هذا التلاعب بالمصطلحات ليس تفصيلًا لغويًا، بل أداة مركزية في إدارة الصراع، هدفها إرباك الرأي العام وتطبيع الجريمة.
المجتمع الدولي، ورغم وضوح النصوص القانونية، لا يزال يتعامل مع القضية الفلسطينية بمنطق البيانات لا بمنطق المسؤولية. فالإدانات اللفظية لم توقف الاستيطان، ولم تحمِ المدنيين، ولم تصن المقدسات. ومع كل تأجيل للمحاسبة، تتعمق حالة الإفلات من العقاب، وتتآكل فرص تحقيق سلام عادل ودائم.
في مواجهة هذا الواقع، يواصل الشعب الفلسطيني صموده، لا بوصفه خيارًا سياسيًا، بل باعتباره ضرورة وجودية. فالدفاع عن الأرض، والتمسك بالهوية، وحماية الذاكرة، باتت جميعها أشكالًا من مقاومة الإلغاء. وفي القدس تحديدًا، يتحول البقاء اليومي إلى فعل تحدٍّ، وتغدو الحياة نفسها موقفًا سياسيًا.
القدس لا تحتاج إلى مزيد من الخطابات، بل إلى وضوح في المواقف. لا تحتاج إلى تعاطف موسمي، بل إلى التزام حقيقي بالقانون الدولي ومبادئ العدالة. فحين تكون الجريمة واضحة، يصبح الحياد تواطؤًا، ويغدو الصمت مشاركة غير مباشرة في تكريس الظلم.
ستبقى القدس معيار الحق في زمن التواطؤ.
ومن هذا المعيار تُقاس المواقف،
ويُعرَف من انحاز للعدالة،
ومن اكتفى بالمشاهدة.