كنوز نت - الدكتورة فاطمة. ابوواصل اغبارية


الفصل الثالث:من قاعة الدرس إلى ساحة العنف: حين يختنق التعليم وتغيب التربية
—————————
للدكتورة فاطمة. ابوواصل اغبارية
لم يكن مقتل الشاب في المدرسة حادثةً معزولة عن سياقٍ تربويّ مأزوم، بل نتيجة لتراكماتٍ داخل المنظومة التعليمية.
فالمدرسة التي خُلقت لتكون بيئة تعلمٍ آمنة، تحوّلت في بعض الحالات إلى مساحة ضغطٍ نفسيّ واجتماعيّ، تفتقر إلى التوازن بين نقل المعرفة وبناء الشخصية.
حين تضيع التربية بين الجدران، يتحول العلم إلى أداةٍ باردة، ويتحوّل الطالب إلى رقمٍ في كشف العلامات، لا كيانٍ إنسانيّ في طور التكوين.
أولًا: المدرسة التي غابت عنها الرسالة
تحوّل المدرسة إلى مؤسسة امتحانات
صار النجاح يقاس بالدرجات لا بالقيم. تُستنزف الطاقات في سباق العلامات، وتُهمَل المهارات الحياتية، فينشأ جيلٌ متعلّم لكنه غير متربٍّ، يعرف كيف يجيب لا كيف يعيش.
تراجع حضور المعلّم كمربٍّ وقدوة
المعلّم، الذي كان يومًا نموذجًا للأخلاق والحكمة، أُثقل بالمهام الإدارية وضغط المناهج، فتراجع دوره الإنساني. بعضهم فقد الحماس، وبعضهم أُحبط أمام واقعٍ لا يقدّر رسالته.
وهكذا، غابت القدوة داخل الصف، وغابت الهيبة القائمة على الاحترام المتبادل لا الخوف.
عنف بنيوي في النظام التربوي نفسه
العنف لا يبدأ من الطالب، بل من البيئة التي تُهينه أو تُهمّشه. القسوة في الخطاب، التمييز بين الطلاب، والإقصاء بدل الاحتواء — كلّها أشكال من العنف غير المرئي الذي يُنتج لاحقًا انفجارًا سلوكيًا.
ضعف الإرشاد النفسي والتربوي
في معظم المدارس، يُنظر إلى الإرشاد على أنه نشاط ثانوي لا بنية أساسية. فيُترك الطالب المضطرب أو المهموم بلا مساعدة، حتى يتحول صمته إلى سلوكٍ مؤذٍ للذات أو للآخرين.
غياب التعاون بين المدرسة والأسرة
العلاقة بين البيت والمدرسة كثيرًا ما تقتصر على استدعاء وليّ الأمر عند وقوع الخطأ، لا على بناء علاقةٍ وقائية دائمة. فغاب الجسر الذي يربط القيم بين المؤسستين.
ثانيًا: من مظاهر الأزمة إلى أسبابها العميقة
ثقافة المنافسة بدل التعاون
التربية الحديثة انزلقت نحو “مقارنة الدرجات”، فزرعت في النفوس الحسد والغيرة بدل روح الجماعة. هذه المقارنات السامة تولّد العنف اللفظي والجسدي بين الطلاب.
غياب البيئة الآمنة نفسيًا
الطالب الذي لا يشعر بالأمان في مدرسته لن يتعلم. وحين يشعر بالخوف أو التهميش، يبحث عن وسيلة دفاعية قد تكون عدوانية.
تهميش التربية القيمية
المناهج غنية بالمعلومات فقيرة بالمعاني. القيم تُذكر في النصوص لكنها لا تُمارس في السلوك اليومي للمؤسسة. فيكبر الطلاب وهم يرون التناقض بين ما يُقال وما يُفعل.
ضغط الامتحانات وتراجع الفنون والأنشطة
الأنشطة التي تفرغ التوتر وتزرع الانتماء تم تقليصها لصالح الحفظ والمراجعات. وهكذا، يُختزن الغضب في النفوس دون متنفسٍ صحيّ.
ثالثًا: نحو مدرسةٍ تربّي قبل أن تُعلّم
إعادة تعريف المدرسة كمجتمعٍ صغير
يجب أن نعيد النظر في مفهوم المدرسة لا كمبنى للتعليم، بل كمختبرٍ للإنسانية يتعلّم فيه الطفل التفاعل، التسامح، والمسؤولية.
تمكين المعلّم تربويًا لا إداريًا

المعلّم هو محور الإصلاح. يجب أن يُدعم نفسيًا وتربويًا، وأن يُمنح صلاحية تربوية لا تقل عن الأكاديمية، وأن يُعاد الاعتبار لمكانته كصانعٍ للإنسان.
إدماج التربية الوجدانية في المناهج
أن تُدرّس القيم عبر الممارسة اليومية، من طريقة المعاملة إلى لغة الخطاب في الصف، وليس عبر درسٍ نظريّ منسيّ في آخر الحصة.
دعم وحدات الإرشاد النفسي والتربوي
يجب أن تتوفر في كل مدرسة كوادر مختصة قادرة على متابعة الحالات السلوكية مبكرًا، وتقديم الدعم النفسي
والتربوي المستمر.
إحياء الشراكة مع الأسرة
لا يمكن إصلاح المدرسة دون إشراك الأهل في رؤيةٍ تربوية موحدة. اللقاءات يجب أن تكون حوارية بنّاءة لا استدعاءات عقابية.
إحياء الأنشطة التربوية والفنية
المسرح، الموسيقى، الرياضة، والعمل الجماعي ليست ترفًا، بل أدوات وقائية من العنف. فهي تتيح التعبير عن الذات وتوجيه الطاقة نحو الإبداع لا العدوان.
رابعًا: المدرسة كصمام أمان مجتمعي
حين تنهض المدرسة بوظيفتها التربوية، فإنها تصبح خط الدفاع الأول ضد العنف، لا ساحته.
المدرسة التي تُعلّم طلابها كيف يحترمون الحياة، تُنقذ المجتمع من مآسي القتل التي تبدأ من كلمة، وتنتهي بجريمة.
إننا لا نحتاج إلى مدارس تُخرّج متفوقين فحسب، بل إلى مدارس تُخرّج أناسًا أسوياء، يفهمون معنى الكرامة والاختلاف، ويقدّسون قيمة الإنسان