كنوز نت - رانية مرجية


حين يصير الحنين بنية وجود لا عاطفة: 
قراءة نقدية للنص الشعري (أسوار الحنين) للشاعر حسين السياب 
رانية مرجية
ناقدة | فلسطينية 



في قصيدته "أسوار الحنين"، يُعيد الشاعر حسين السيّاب تعريف مفهوم الحنين، لا بوصفه شعوراً إنسانياً رومانسياً، بل كـ نظامٍ داخلي يحكم الكينونة ويعيد تشكيل الذاكرة والعاطفة واللغة.
هذه القصيدة ليست مجرّد تأمل في الغياب، بل تفكيك للوجود من خلال ذاكرة متصدعة.
السيّاب لا يكتب عن امرأةٍ فُقدت، بل عن الإنسان حين يفقد قدرته على التماسك، فيتداعى صوته بين مطرٍ قديم وسرابٍ يتوهّم الحياة.

بين المطر والسراب: الفقد بوصفه فلسفة

يبدأ الشاعر بمفارقة لغوية تفتح النص على فضاءٍ تأويلي شاسع:
"يرتفعُ حائطُ الغيث كأنّه سرابٌ يُمسكُ بالهواء"..
في هذه الجملة وحدها، يهدم السيّاب منطق الطبيعة ليبني منطق الروح.
الغيث — المفترض أن يسقط — يرتفع، والسراب — المفترض أن يتلاشى — يمسك بالهواء.
إنها قلبٌ للعلاقات بين العناصر، كما لو أن العالم انقلب داخلاً إلى الخارج.
هنا يدخل القارئ في أول طقسٍ من طقوس القصيدة: الإدراك أن الوجود الشعري لا يخضع لقوانين الفيزياء، بل لقوانين الذاكرة.
الحنين إذن ليس رجوعاً إلى زمنٍ مضى، بل حركة صعودٍ إلى سرابٍ مقدّس — محاولة لمس شيءٍ لا يُمسك، عشق ما لا يُستعاد.
بهذا المعنى، تتحول القصيدة إلى تأمل في المستحيل.

الليل كفضاء معرفي: من الخوف إلى الكشف

"أمدّ يديّ في ليلٍ يتوجّس
فتسقط نجمة على كتفي"

في هذه الصورة، يتحوّل الليل من خلفية زمنية إلى كائن واعٍ، "يتوجّس"، أي يمتلك حسّاً بالخطر والسر.
إنها أنسنة الوجود لا لإحياء الطبيعة، بل لتوحيدها مع الذات الشاعرة:
فما الليل إلا مرآة الداخل، وما النجمة إلا سقوط المعرفة على جسدٍ يتوق للفهم.
حين تسقط النجمة، لا يضيء المكان، بل يبدأ الانطفاء الجميل — الانطفاء الذي يسبق الكشف، كما في التجارب الصوفية.
السيّاب هنا يقترب من تجربة النفّري والحلاج في شعرية "الوقوف على الحدّ"، حيث يكون الوعي لحظة احتراق.

وجهٌ يتدلّى من ذاكرةٍ غائمة: الشعر بوصفه استحضاراً للأثر

"خلف ارتعاش الضوء
يتدلّى وجهكِ من ذاكرةٍ غائمة"

الوجه الذي يتدلّى ليس حضوراً، بل أثر حضور.
الضوء يرتعش، والذاكرة غائمة — في مشهدٍ سينمائي يذكّرنا بأفلام الذاكرة الطيفية.
كأن الشاعر يكتب من وراء ستارةٍ من الدموع، أو من داخل غرفةٍ أغلقت نوافذها منذ زمنٍ بعيد.
في هذا المقطع، يبلغ النص أقصى درجات التجريد العاطفي:
الوجه ليس ملامح بل نداء، والذاكرة ليست خزّاناً للماضي بل ضبابٌ يقطر منه الزمن.

التهدّم بين نبضين: المعمار الشعري للانكسار

"وأنا أتهدَّم بين نبضي ونبضكِ
مثل شرفةٍ أكلها الصمت
وظلّت معلقةً على خاصرة الريح.."

هذا المقطع يمثّل ذروة التكوين الدرامي للنص.

الذات الشاعرة لم تعد ثابتة، بل تتحلّل بين نبضين: نبضها ونبض الآخر.
إنها تجربة تماهٍ وجودي بين الأنا والآخر، ينتهي بانفصالٍ مأساوي.
الشرفة، رمز الانتظار، تتحوّل إلى أطلالٍ من السكون.
الصمت يأكلها كما يأكل الصدأ الحديد، والريح — رمز الحرية — لا تنقذها بل تُبقيها معلّقة.
هذه الصورة من أعقد الصور في الشعر العربي الحديث، إذ توحّد بين السكون والحركة، بين البقاء والفناء.
إنها استعارة عن الإنسان المعاصر المعلّق بين الرغبة في التواصل والخوف من الانهيار.

البنية الصوتية: موسيقى التلاشي

السيّاب يكتب بلغةٍ تتنفس.
لا يعتمد الإيقاع الخليلي، بل يخلق موسيقى ناتجة عن احتكاك الأصوات — كأنّ الحروف نفسها تُطرِق بحذر كي لا تزعج الذاكرة.
تكرار الأصوات المائية (س، ن، م، ل) يمنح القصيدة طابعاً مائياً شفيفاً، يجعل القارئ يشعر أن النص ينزلق من بين يديه كما ينزلق الماء من الكفّ.
إنها موسيقى التلاشي، لا النشوة.

أسوار الحنين: جدار الروح

العنوان هو المفتاح البنيوي الأكبر.
الأسوار ليست مادّية، بل روحية. إنها الحدود التي يبنيها الكائن حول ألمه ليحافظ عليه نقياً من التلاشي.
الحنين هنا ليس ضعفاً بل فعل مقاومة — مقاومة ضد النسيان، ضد التشيؤ، ضد الزمن.
إنها ثورة صامتة تقوم بها الذاكرة على الواقع.
بهذا المعنى، القصيدة ليست مرثية، بل بيان فلسفي عن الإنسان وهو يعيد تشكيل ذاته في مواجهة الفقد.

خاتمة: الشعر كملاذٍ ميتافيزيقي

في نهاية النص، تتجلى معادلة السيّاب الكبرى:

"ظلّت معلّقةً على خاصرة الريح"

لا سقوط، ولا استقرار.
الذات معلّقة بين الأرض والسماء، بين الصوت والصمت.
هذه الـ"خاصرة" ليست موقعاً جغرافياً بل مساحة وجودية للارتجاف.
إنها النقطة التي يقف فيها الشاعر بين العدم والخلق، بين الحنين والجنون.
هكذا تتجاوز "أسوار الحنين" حدود القصيدة الغزلية لتغدو أحد النصوص الوجودية الأندر في الشعر العربي الحديث — نصّاً يضعنا أمام سؤالٍ أبدي:
هل نحن نكتب الشعر لنستعيد من أحببنا، أم لنبرّر لأنفسنا أننا لم نستطع استعادته؟.


النص:

(أسوار الحنين)


يرتفعُ حائطُ الغيث
كأنَّهُ سرابٌ
يُمسكُ بالهواء
أمدُّ يَدَيَّ في ليلٍ يتوجَّس
فتسقطُ نجمةٌ على كتفي
وتهمسُ الظلالُ باسمكِ..
هناك
خلفَ ارتعاشِ الضوء
يتدلّى وجهُكِ من ذاكرةٍ غائمة
يقطرُ من عينيهِ مطرٌ قديم
وأنا أتهدَّمُ بين نبضي ونبضكِ
مثلَ شرفةٍ أكلها الصمتُ
وظلّتْ معلّقةً على خاصرةِ الريح..!!