كنوز نت - بقلم الناقدة السورية : أحلام حسين غانم



مقاربة صمت المعنى في نص (وحده الليل) للشاعر حسين السياب 
بقلم الناقدة السورية :  أحلام حسين غانم




توطئة:
في زمنٍ تتهاوى فيه اليقينيات، وتسقط الرموز من برجها العاجي، يصبح الشعر أكثر من مجازٍ إبداعي؛ يغدو حقلًا فلسفيًا مفتوحًا لأسئلة الكينونة والعدم، الموت والحياة، الصوت والصمت، المعنى واللا معنى.
كيف نفهم هذا الصمت في نص "وحده الليلُ" للشاعر "حسين السياب"؟ وكيف يصمت المعنى في حضرة اللا معنى؟

حسين السياب والنص الشِّعري الحديث:
يعدّ الشاعر حسين السياب من الشعراء المحدثين الذين ينقلون المتلقي نقلة نوعية في عالم النص الشِّعري الحديث. في نصوصه من وضوح العبارة وبساطة الألفاظ والتنميق ما لا يحوجنا إلى القواميس والمعاجم لفهمها، ولكنّها تبدو محيّرة لما تزخر به من رموز وألغاز ومفارقات.

المسار الوجودي:
قصيدة "وحده الليل" للشاعر حسين السياب، تندرج في المسار الوجودي، حيث لا تحتفي باللغة كوسيلة تعبير، بل كأداة مقاومة وتفكيك؛ قصيدة تنبني على قلق وجودي كثيف، وتتلبّس بطيف عبثي يمحو المسافة بين الحنين والانكفاء، وبين الرغبة في النجاة والإيمان باستحالتها.

العنوان (وحده الليلُ):
يشكّل عنوان "وحده الليلُ" مدخلًا رمزيًا إلى حالة الجمود النفسي واللاجدوى، يواكب الشاعر من خلاله الصراع الوجودي بين الألم والأمل، مستثمرًا رموز القلق الكينوني والاضطراب النفسي في بناء نصٍ يحرّض الذات على تجاوز عتمة الموت، وإشعال شرارة الحياة من داخله.
إنَّهُ لنصٌّ شِعريٌّ مشرقٌ، يحمل بصمةَ شاعرٍ وجدانيٍّ صارخٍ، تتربّص بلحظةٍ هاربةٍ للقبض على الحلم القديم، لعلّي أجدُ بعضَ سرٍّ مُرهَقٍ تدثَّرَ في أغوار حجارةِ المعنى.

الدَّال الصارخ:
ألسِنةُ شظايا الصمتِ مُبينةٌ، حيثُ تتحوَّلُ طُقوسيَّةُ الإيماءِ إلى صميم جوهرِ الرمزِ الدَّالِ الصارخِ صمتًا "كأنها مقابرُ مفتوحةٌ على هواءٍ متعفّن..". في هذا الخطابِ الشعوريِّ المُنطلِق من الذَّات الأناويَّةِ، ليصُبَّ في الذَّات الجامعةِ، تاركًا شراعَ المصابيحِ المُرتجفةِ يحمِلُهُ قدرٌ "يصرخُ حين تدوسه الخطى".
في هذا النص، لا نوافذ مفتوحة على وجه الانتظار؛ الانتظار نفسه مشكوك فيه، مشكوك في نواياه، في صدقه، في نهاياته.
الحنين إلى بيوت الطين ليس سوى انعكاس لما تبقّى من قلوبٍ أطفأها الانتظار. الأمكنة تطرد، البيوت تلفظ، والقبور تزداد بُعداً كلما ازداد الشاعر بحثاً عن طائرٍ يحاول "أن يزرعَ المعنى في تربةٍ يابسة".

التمزّق الرمزي:
من خلال هذا التمزّق الرمزي، ينهض المعنى، وتفتح القصيدة بابًا أمام سؤالٍ وجوديٍّ عارٍ: هل كانت القبور المفتوحة على البعث دومًا كذبةً شاعرية؟ وهل كان علينا أن نصدّق تلك الكذبة كي لا نموت قبل موعدنا؟ أم أن الشعراء لا يعترفون بالموت؟

الذائقة الشعرية:
بلغت الذائقة الشعرية لدى الشاعر درجةً كبيرةً من النضج، منحته قدرةً على استثمار المفردات اللغوية، وشحنها بضروب الإيحاء والتلميح والغموض، والاعتماد على المصطلحات البلاغية مثل:
التشبيه: مقارنة صريحة بين شيئين باستخدام أداة مثل "كـ".
الاستعارة: تشبيه مكنى عن أحد طرفيه بحذف صريح لعنصر من عناصر التشبيه.

إذ يقول:
كأنها مقابرُ مفتوحةٌ/ على هواءٍ متعفّن../ المصابيحُ المرتجفةُ/ تسعلُ نوراً مريضاً/ تذكّرني بقلوبٍ أطفأها الانتظار/ كأنني حين أواجه العدم/ أكتشفُ أنني موجود.

تردّد الذات:
يوظّف الشاعر استعارةً بصريةً وحسّيةً لوصف الوعي الداخلي بضوءٍ مرتجف، يشبه مصباحًا قديمًا على وشك الانكفاء. "تسعل" تعكس رجفة الحركة وذبذبة الانكسار، فيؤسس لرمز تردّد الذات بين البقاء والزوال.

مرآة الصراع والتحول النفسي:
يُشكل أسلوب الشاعر في قصيدة "وحده الليلُ" مرآةً لصراع الإنسان مع عبثية الوجود، حيث تتداخل الصور والرموز بأسلوبٍ مكثفٍ ينسج بين الشعرية والفلسفية؛ كل رمزٍ يعيد توقيته في ثنائية العتمة/ النور، والصمت/ الصخب، ما يعزّز انتقال الذات من الركود إلى المقاومة.
يستثمر الشعر التضاد لتكثيف الانفعال، وإبراز التحول النفسي في السياق الوجودي. وعليه، يختار الشاعر لغةً تتدثّرُ بِعُرْيِها، توازي حالة التشظي النفسي والوجودي، وفيها عبارات تختزل ألمًا عميقًا مثل: "يمتدُّ مثلَ نهرٍ أسود"، و"تُخبّئ في كلّ زاويةٍ عظامَ حلمٍ قديمٍ"، و"كأنها مقابرُ مفتوحةٌ على هواءٍ متعفّن"، تعبيرًا عن فراغٍ يلف الروح وينسف الأمل.

ذروة الفعل المقاوم:
القصيدة لا تستسلم لسردٍ خطيٍّ تقليدي، بل "تجرّ خلفها ذاكرةَ من باعوا صمتهم"، وتُهيئ القارئ لذروة الفعل المقاوم، مما يخلق إيقاعًا يذكّر بأن الحياة ليست قصةً متماسكةً، بل حالة مزادٍ دائمٍ، والعتمة ليست حالةً عابرة، بل إنها عنوانٌ يختزل تجربةً مستمرةً من المقاومة.
تتكامل بنية النص عبر ثنائياتٍ تخلق صراعاتٍ داخليةً، تدفع القصيدة نحو التناقض المنتج: عتمة/ نور، ويبدو تأرجح الذات بين الانغلاق والبحث عن البصيرة: سكون/ حراك.
هذا الأسلوب يؤسّس مونولوجًا ذاتيًا يسعى الشاعر من خلاله إلى نقل الصوت الداخلي إلى فعلٍ مقاوم؛ ثنائية القائل والمخاطب تنقسم "الذات" إلى ضميرين: قائلٌ يوجّه، وضميرٌ مُخاطَبٌ يستجيب أو يرفض، ما يولّد صراعًا نفسيًا يتجاوز التمنّي إلى الفعل.

ذروة المواجهة:
وضمن هذا السطر الشعري نجد ذروة المواجهة، حيث يقول: "وحين أفتّشُ عن موتي/ أصيرُ أكثر حياة.." إنه إعلان تحالف الإرادة مع الذات، واستقبال الموت كجزءٍ مدركٍ من الصيرورة الوجودية.

التمرد على العتمة:
وبهذا، يصبح الأسلوب جزءًا لا يتجزأ من المعنى، لغةً تحمل في طيّاتها استحضارًا مستمرًا للشكّ والرفض، مع إصرارٍ لا ينكسر على الحياة رغم الخراب. والتتابع الدرامي يوضح للقارئ مدى تحول الخطاب من وعيٍ بالعجز إلى قرارٍ فاعلٍ بالتمرد على العتمة.

فائض في المعنى:
إنَّه الشعر، يوجد فيه دائمًا "فائض في المعنى يروغ منا للنطق، ويفلت من شبكة اللغة، ومن ثمّ فهناك دائمًا شيء بين السطور، شيء على طرف اللسان، يوشك أن يُقال ولا يُقال... ثمة دائمًا فائض في المعنى يهيب بك أن تطاله أو أن تقوله"*.

مجمل القول:
قصيدة "وحده الليلُ" تفتح أبوابًا من التأويل العميق والمتشابك، مدفوعةً بصراعٍ داخليٍّ مشحونٍ بثنائيات الحياة الجوهرية: النور مقابل العتمة، الانتظار أمام الفعل.
تبدو القصيدة أقرب إلى بيانٍ يدعو للتمسك بالجوهر الذاتي مهما كانت العتمة، حتى في مواجهة الموت القريب. ومع ذلك، يعترف الشاعر بحقيقة هشاشة الإنسان، إلا أنه يحوّل هذه الهشاشة إلى قوةِ تحدٍّ ورفضٍ للعتمة/ للهزيمة.
حاولنا استكشاف ما لا يُقال في "وحده الليلُ"، حيث يُصبح الصمت دلالةً على مشاعر مكبوتة، فراغ، أو حتى احتجاج، بينما تُترك النهاية المفتوحة البابَ موارباً أمام القارئ لإكمال المعنى، وتحديد مصير الإنسان عندما ينهضُ حتى من رمادِه، مما يمنح النص امتداداً وجودياً وإبداعياً يجعله اللامعنى مستمراً بذهنه.
ختامًا، اختار الشاعر خطابًا ذاتيًا، ليس كوسيلةٍ بلاغيةٍ عابرة، بل كنهجٍ وجوديٍّ يعكس حوارًا داخليًا بين الذات وما تحمله من إمكانياتٍ خفية، كأنه يُبادر بمواجهة مكنونات نفسه عند مفترق صمت المعنى في حضرة اللامعنى.

القصيدة:


(وحده الليل)

وحده الليلُ
يمتدُّ مثلَ نهرٍ أسود
يبتلعُ أصواتَ العابرين
ويتركُ لهم
شظايا صمتٍ
يضعونها تحت الوسائد..

الشوارعُ حزينةٌ
تتدثّرُ بِعُرْيِها
وتُخبّئ في كلّ زاويةٍ
عظامَ حلمٍ قديمٍ
كأنها مقابرُ مفتوحةٌ
على هواءٍ متعفّن..

المصابيحُ المرتجفةُ
تسعلُ نوراً مريضاً
تذكّرني بقلوبٍ أطفأها الانتظار
وبأرواحٍ لم تجدْ مقعداً في حافلةِ النهار..

الأرصفةُ الملطّخةُ بالعار
تجرّ خلفها ذاكرةَ من باعوا صمتهم
بأبخسِ الأثمان،
ومن وضعوا أسماءَهم
في مزادِ العابرين،
فلم يتبقَّ منهم
غيرُ غبارٍ يصرخُ حين تدوسه الخطى...

في هذه المدينة
لا شيء يكتمل،
الأبوابُ لا تُفضي إلى بيتٍ،
والنوافذُ لا تعرفُ وجهَ الريح..
حتى السماء
تتردّدُ في أن تمطر،
كأنها تخشى أن تغسلَ جراحاً
لم تُكتبْ لها مغفرة!

أقفُ على حافة الليل
أُصغي إلى ارتجافِ حجارةٍ
تحلمُ أن تعودَ طيناً،
وأفكّر:
(هل نحن كائناتٌ عابرةٌ
تحاول أن تزرعَ المعنى
في تربةٍ يابسة؟!)

غير أن الليل،
برغم قسوته،
يمنحني سكينةً خفيّة،
كأنني حين أواجه العدم
أكتشفُ أنني موجود،
وحين أفتّشُ عن موتي
أصيرُ أكثر حياة..

هكذا
أمضي مع الليل،
أعانقُ ظلاله،
وأنتظرُ فجراً
قد لا يجيء..
لكن يكفيني أني كتبتُ على صدر الظلام:
أن الإنسانَ ينهضُ
حتى من رمادِه.




هامش:
–ريكور، بول، نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد غانمي، المركز الثقافي العربي، ط1، 2003، ص89.