
كنوز نت - عن بيت النّورَس
"عَين خَفشَة"، وَحِوارِيّة مع الأديبة رجاء بكريِّة في المقهى الثّقافي " ليوان"، النّاصِرة،الخميس 28 آب
عن بيت النّورَس: على شرف الحواريّة الّتي ستجري الخميس في مقهى ليوان حول رواية "عَين خَفشَة" للأديبة رجاء بكريّة ننشر فيما يلي مقتطفين من بحث ومقالة أنجِزا حديثا حولها لد. فهيمة غَنايِم ود. وِسام جبران.
والجدير ذكرهُ أنّ الرّواية انفة الذّكر صدرت سنة 017 عن الأهليّة للنّشر والتّوزيع| عمّان هي الّتي تنشغل بحِكاية النّكبة كما وردت على لسان أصحابِها. وقد وُقِّعَت في مركز الثّقافة والفنون وسط باريس بكثير من شغف ودهشة واستُضيفت في المنابر الاعلاميّة المركزيّة هناك. قد يكون الجديد أنّ هذا النّوع من الرّوايات لا يَهرَم، لأنّهُ يرتبط بذاكرة لا يَخمَدُ جَمرُها، لكنّها أيضا تُكتب للمرّة الأولى على لسان أصحابها كما حدثت ونُقلت سردا ومُخيَلة.
بين فوضى الذات وتيه الهويّة في مرآة السرد الفلسطينيّ: د. فهيمة غَنايِم
"..تُشكّل رواية "عين خفشة"، للروائيّة الفلسطينيّة رجاء بكرية، نصًّا استعاديًّا ينهض على تفكيك بنى الذاكرة الفلسطينيّة من خلال طفولةٍ تتّكئ على خطابٍ سرديٍّ يستبطن فلسفة الفقد، ويعيد إنتاج النكبة لا بوصفها حدثا تاريخيًّا، بل كجرحٍ متناسل عبر الأجيال، جرحٍ يتجسّد كلغةٍ، كذاكرةٍ، كمكانٍ مثقوبٍ لا تنطفي حرائقه، نصٌّ مشبع بفقد يقيم في اللغة، ويتسرّب من حواف المكان، ويتحوّل إلى هويّة لا تزال تجرّب أسماءها في مرايا الكارثة، هنا، تنهار الحدود بين اللغة والمكان، بين الجغرافيا والمجاز، فتصير اللغة أرضًا بديلةً، وتصير القرية كنايةً عن صوتٍ يخرج من ذاكرة عجوز تحتضر على حافة الزمن.
وما يثير الدهشة الكامنة في هذا النصّ، هو قدرة الكاتبة على الاشتغال في روايتها ضمن حقول متقاطعة: بين أدب ما بعد الاستعمار، وسرديّات النكبة، والنسويّة ما بعد الكولونياليّة، فتنتصر لرؤيةٍ متعدّدة الأصوات لا تتكلّم باسم الضحيّة فقط، بل تكشف هشاشة السرديّة الاستعماريّة، من خلال الإصرار على استعادة ما تمّ نَفيُه، عبر مساءلةِ معنى الاستعادة ذاتِها.
فمنذ الصفحات الأولى، تلقي بكريّة بقارئِها في مياه الذاكرة الثقيلة، متعمّدة إغراقه في "عين خفشة"، تلك العين التي نُكِئَتْ، لتُبصِر بالموت، وتتهجّى الحياة من خرائبها، من ندبةٍ، من صوت بكاءٍ لم يتوقّف منذ النكبة، فالسّرد لا يتقدّم، بل يتناسل من كتل الحنين، وينزف من ثقل الفقد.
وهي إذ تنطق، لا تطلب الاعتراف، بل تفضح هندسة النسيان، حين تتحوّل الحقيقة إلى جملة ناقصة في فم طفلة تسأل: لماذا لا نعود؟.."
جدليَّة الانتماء والزمن وسِياسات الجسد في تشكيل الهويَّة الفلسطينيَّة:د. وسام جبران
في قلب هذا النّص، يبرز مفهوم الانتماء بوصفه شعورًا متأرجحًا بين التحقّق والخُذلان. الانتماء في «عين خفشة» ليس حالة سُكونية مضمونة، بل هو فعل مستمرّ من التّفاوض بين الذّات ومحيطها. فالقرية، البيت، الحارة، وحتى أسماء الأمكنة، تصبح علامات دالّة على ذاكرة جمعيّة، لكنها في الوقت ذاته مهدّدة بالتآكل أو التّزييف. يظهر ذلك جليًّا في مشاهد تذكر الطّفولة حيث كانت شخصية لبيبة، على سبيل المثال، تعود من المدرسة عبر الطريق الترابية المحاذية لبساتين الزيتون، تتلمّس الحجارة وتستمع إلى خرير المياه في الوادي، لتشعر أنها جزء لا يتجزأ من هذا المكان، لكنها تدرك مع مرور الوقت أن هذا الإحساس مُعرَّض للانكسار، وأن بساتين الأمس قد تتحول إلى أطلال أو ممتلكات مغتصبة. هذا الوعي المتأرجح يعكس ما وصفه بندكت أندرسون في «الجماعات المتخيَّلة» (Imagined Communities, 1983) من أن الانتماء إلى جماعة أو وطن ليس معطًى طبيعيًّا، بل هو سرد متجدد تُعيد الجماعة إنتاجه في كل جيل.
إلا أن الرواية لا تكتفي بإبراز الانتماء، بل تتعمد الحفر في تجربة اللّاإنتماء. هذا اللّاإنتماء يتجسد أحيانًا في شعور الغربة داخل المكان نفسه، أو في انقطاع الحبل السرّي بين الإنسان وماضيه. لبيبة، وهي إحدى الشخصيات المركزية، تعيش حالة من الانفصال عن محيطها رغم بقاء جسدها في القرية. فهي تراقب تحوّلات المكان بعين ناقدة، وتجد نفسها عالقة بين ذاكرة جماعية متضامنة، وحاضر يفرض عزلة فردية خانقة. هنا تلتقي الرواية مع أطروحات إدوارد سعيد في "خارج المكان"(Out of Place, 1999) حول المنفى بوصفه ليس بالضّرورة مغادرة جغرافية، بل يمكن أن يكون تجربة شعوريّة يعيشها المرء وسط أهله وبلده.
من الناحية الفلسفية، يكتسب هذا التوتر بين الانتماء واللّاإنتماء أبعادًا هايدغريّة واضحة. فمارتن هايدغر، في «الوجود والزمان» (Sein und Zeit, 1927)، يطرح فكرة الـ«Geworfenheit» أو «الملقَى-في-العالم»، أي أن وجود الإنسان مشروط بكونه أُلقي في ظرف لم يختره. لبيبة وسائر شخصيات «عين خفشة» يجدون أنفسهم في عالم سياسي واجتماعي مُهيمن، حيث الاحتلال والقهر الاجتماعي يشكّلان حدود التّجربة الممكنة، فيصبح الانتماء مشروطًا بالقدرة على التّفاوض مع هذه الحدود، واللّاإنتماء فعل مقاومة ضمنية ضد استلاب المعنى.

27/08/2025 05:27 pm 143
.jpg)
.jpg)