.png)
كنوز نت - بقلم شهربان معدّي
لو ينطق الحجر والشجر الجزء الثاني
بقلم شهربان معدّي
هي ليست قصّة خطرت فجأة على بالي لأكتبها للتسلية، أو طمعًا في كسب قلوب القرّاء، بل هي واقعة أليمة، أو لنقل: رحلة خوف وضياع ومعاناة، في بلاد كُتب عليها قدر الحروب وسفك الدماء منذ فجر التاريخ، وحتى هذه اللّحظة.
إنها قصّة رضيعة في عمر الورد، تُركت وحيدة في زمن الموت والشّتات، زمن الهجيج سنة 1948؛ إذ تركتها أمّ مذعورة خائفة في لحظة ضعف وانكسار، فإذا بها بين ليلة وضحاها تفترش الأرض وتلتحف السماء.
كان ذلك في مطلع الخريف، حين بدأت الأشجار تتعرّى من أوراقها، والبشر من إنسانيّتهم. في ذلك اليوم الباهت، وفي تلك المرحلة المفصليّة التي غيّرت وجه التاريخ، كانت أوراق أيلول تتساقط بهدوء، بينما شمس الظهيرة تنظر بحزن من السماء، تراقب بيوتًا خلت من ساكنيها، وأخرى تواري موتاها بصمت، بعد أن تشتت شملها في مدن المستحيل.
قصتي هذه عن أمّهات مشرّدات في زمن عصيب، بين القرى والبراري وكروم الزيتون، يحملن أطفالهن الصّغار، يتوسلن كسرة خبز أو شربة ماء في بيوت الغرباء.
ولأنني لم أكن شاهدة عيان، أترك الكلمة للباحث د. شكري عرّاف، الذي كتب في كتابه لمسات وفاء (ص 721):
"وحين كان الشيخان مبدّا أبو سلمان أبو حمدة وشحادة أبو حمدة، من قرية يركا، يتجولان في كَرْم الزيتون خاصتهما، وجدا رضيعة فأخذاها لتصبح أحد أفراد عائلتهما. تربّت البنت في هذا البيت الكريم، وبعد أن كبُرت، التقى مربيها، والدها في التربية، بأهلها البيولوجيين وسلّمها إليهم. وعندما كبرت وحان وقت زواجها، اشترطت وبعناد أن يكون وكيلها هو الرجل الذي كُتبت حياتها على يده، واعتبرها ابنة له."
ويضيف الباحث الجليليّ:
"أعترف أنني فتشت عن أهل هذه الفتاة في كثير من القرى الجليليّة، لكن دون جدوى. وزرتُ كثيرًا من آل شحادة في يركا، غير أن أحدًا لم يَرشدني إلى هذا الشيخ المُربي، حتى عرفت أخيرًا اسمي الشيخين المرحومين المذكورين أعلاه. أصلّي أن يتواصل معي من يعرف هذه الفتاة، أو أن تكون هي قارئة هذه القصة، ليطمئن قلبي من جهة، وليكون شكري، وربما شكرها وشكر عائلتها، موجَّهًا لروح أحد هذين الشيخين الفاضلين."
هذا ما جرى في زمن النكبة، في قريتي يركا، التي استضافت آلاف اللاجئين بكل حبّ وأريحيّة واحتواء. لا أكتب هذه الكلمات لأجترح أحدًا أو لأُشهر سيف الاتهام، بل لأُذكّر فقط بجميلٍ دفين قدَّمه أهل يركا من إكرام واحتواء. لعله تذكيرٌ يردّ الجميل لأرواح من وسّعوا بيادرهم للمهجّرين، ويثبت أن العيش والملح لم يكونا حيّزًا للخصام بل جسرًا للإنسانيّة.
ويبقى الحجر والشجر شاهدَين، ليعلّما الأجيال أن الخيانة ليست فقط بين قلبين، بل بين ذاكرة وذاكرة.
وفي الختام، إذا لم ينطق الحجر والشجر، فالتاريخ يشهد على فضل بني معروف من كل القرى المعروفيّة، في إيواء النازحين، وإكرامهم بكل حميّة ومسؤوليّة، وإعادتهم إلى قراهم الأصليّة وتثبيتهم فيها، رغم قسوة الزمان وشظف العيش.
وبإذن الله، للحديث بقية...
28/10/2025 08:09 am 48
.jpg)
.jpg)