
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
دلال أبو آمنة… حين يُغنّي القلب ويُفكّر الدماغ
بقلم: رانية مرجية
قد تكون المعادلة الأصعب في زمننا هذا، أن تكون فنانًا لا يُهادن، وأنثى لا تُخضع صوتها لتقاليد الصمت، وباحثة تُجادل الضوء في مختبرات الأعصاب، ثم تعود، بحنّية الناصرة، لتغني لجدّتها “يا ستي”، وكأنها تعيد للأرض نغمتها الأولى.
هذه هي دلال أبو آمنة، الصوت الفلسطيني القادم من رحم الحنين، والمخيخ المضيء الذي لا يفصل ما بين الكمنجة والمجهر.
في عالمٍ يسير نحو التفاهة بأقصى سرعته، ظهرت دلال كأنها ومضة أصيلة. لم تسعَ للشهرة كغاية، ولم تنحنِ يوماً لإغواء السوق. بل مشت بخطا ثابتة، من طفولة يانعة في الناصرة، إلى مسارٍ مزدوج، فيه من الفن كما فيه من العلم، ومن الذكاء كما فيه من الحُبّ.
دلال التي بدأت الغناء منذ نعومة أظفارها، لم تكن مجرد موهبة مبكرة، بل كانت مشروعًا ناضجًا منذ بدايته. وفي عالمٍ يُقاس فيه الفن بعدد المتابعين، أعادت دلال تعريف القيمة، فاختارت أن تكون “صوت القضية” لا صدى الشهرة.
لقد غنّت لفلسطين، ليس فقط من على المسارح، بل من بين خلايا العقل العربي التي غُيّبت عنها الحقيقة.
■ “يا ستي”… حين تُغنّي الجدّات وتُشفى الأرض
من بين أنجح مشاريعها وأجملها حسًا، يأتي مشروع “يا ستي”، ذاك الذي لا يمكن تسميته مجرد عرض غنائي. إنه عودة إلى رحم الذاكرة، إلى زمن النساء اللواتي كنّ يغنين لأطفالهنّ كي يناموا، لا لينام الضمير.
دلال، بحسّها الأنثوي العميق، لم تصعد المسرح وحدها. بل حملت معها أصوات نساء فلسطين، من الجليل إلى غزة، ووقفت الجدّات على المسرح بلباسهنّ الفلاحي، يغنين بصدق، في طقس جماعيّ يُشبه طقوس الشفاء.
“يا ستي” لم يكن مجرّد حنين، بل مقاومة. مقاومة ضد النسيان، ضد التهميش، ضد إسكات الأصوات النسائية الفلسطينية التي لطالما كانت العمود الفقري للحكاية.
■ القلب الفلسطيني والعقل الكوني
ليست دلال أبو آمنة مغنية فقط، إنها عالمة أعصاب. باحثة لا تقلّ شغفًا في المختبر عن المسرح. حصلت على الدكتوراه في علم الأعصاب، وتخصصت في البصريات الوراثية – تلك التقنية الثورية التي تسمح بالتحكم بالخلايا العصبية عبر الضوء.
وفي TEDx، قالت كلمتها المدهشة: “أنا لا أختار بين الفن والعلم. هما جناحاي”.
هنا، لا تتحدث عن عبقرية فردية فحسب، بل عن فلسفة. عن امرأة فلسطينية تكسر الصورة النمطية بوعي ناعم. امرأة لا تقف بين خيارَي: العقل أو العاطفة، بل تُعيد نسج المعادلة: الحبّ بالعقل، والعلم بالحنان.
■ الحبّ… جوهر التجسير
دلال لا تفصل بين الغناء والموقف. ففي أكتوبر 2023، اعتُقلت من قبل الاحتلال الإسرائيلي فقط لأنها نشرت عبارة “لا غالب إلا الله” على خلفية علم فلسطين.
هذا وحده يُثبت أن صوت دلال يُقلق المحتل، لأنه صوت غير مشروط، غير خاضع، غير مُعلّب في قوالب السلام الزائف.
لكنها، رغم ذلك، لم تردّ بالشتائم، بل بالحب. تُغنّي للسلام، لا من منطلق الخضوع، بل من منطلق التجسير الحقيقي.
سلام لا يعني النسيان، بل الاعتراف. سلام لا يُقصي أحدًا، لكنه لا يغفر للمُجرم قبل أن يعترف بذنبه.
■ دلال الإنسانة: بين الأمومة والتواضع
خلف كل هذا المجد، تقف دلال كإنسانة أولًا. زوجة طبيب وشاعر، وأم لطفلين، تنسج الحب في بيتها كما تنسجه في أغنياتها.
تُعرف بتوجهاتها الروحية الصوفية، وبتواضعها الآسر، حيث تقول دومًا إنها مجرّد “رسولة من الزمن الجميل”، لا نجمة.
تُشارك جدّات فلسطين الحكايات، وتحتفل بأعراس الجليل، وتزور الأسرى وتُعزّي الثكالى، وتُكرّم الفقراء بحضورها، لا بخطاباتها.
■ دلال… حين يغدو الصوت جسرًا
في زمن الخواء، يعلو صوت دلال أبو آمنة كجسر ممتدّ بين ما كنّا وما يجب أن نكون. بين التراث والحداثة، بين المخ والعاطفة، بين فلسطين المنكوبة وفلسطين الممكنة.
دلال ليست فقط مغنية، ولا حتى فقط عالمة. هي معادلة كاملة، امرأة عربية حرة، تُجيد لغة الأمل بلحنٍ طينيّ، ولغة الصرامة في البحث، ولغة الصدق في الموقف.
فهل نحتاج أكثر من دلال؟
ربما لا.
لكننا حتمًا نحتاج أن نصغي أكثر… حين تتكلم دلال
01/06/2025 12:19 pm 92