كنوز نت - بقلم: سليم السعدي


شعب بين المطرقة والسندان
بقلم: سليم السعدي

في تاريخ الأمم لحظات فاصلة، وفي تاريخ فلسطين جرحٌ مفتوح لم يُمنح فرصة للالتئام. حكاية هذا الشعب ليست حدثًا عابرًا ولا نزاعًا طارئًا، بل مسارًا طويلًا من الاستهداف المتواصل، بدأ باحتلال الأرض وتزييف الرواية، وتواصل بمحاولات محو الهوية وسرقة الذاكرة. فلسطين—أرض كنعان—ليست مجرد جغرافيا؛ إنها مهد حضارات وتعاقب رسالات، ونقطة التقاء طرقٍ جعلها مطمعًا للقوى عبر العصور.

منذ أقدم الأزمنة، سكنت هذه الأرض شعوبٌ كنعانية أصيلة، امتدت جذورها في التربة، وبنت مدنًا وزراعةً وثقافةً ولغةً، وتوارث أهلها أسماء القرى والينابيع والسهول جيلًا بعد جيل. إن الانتماء إلى فلسطين لم يكن يومًا ادّعاءً سياسيًا، بل حقيقةً تاريخية تشهد لها الآثار، والنقوش، واستمرارية العيش البشري الذي لم ينقطع. هذه الاستمرارية هي لبّ القضية: شعب لم يُستقدم إلى أرض، بل نشأ منها.


أما الرواية الصهيونية، فقد قامت على منطق الإقصاء وتزوير الوقائع، محاوِلةً اختزال التاريخ في نصوص مُنتقاة وتأويلات مُسيسة، متجاهلة آلاف السنين من الحضور السكاني والحضاري العربي في فلسطين. فكرة “أرض بلا شعب” ليست سوى أسطورة أُنتجت لتبرير مشروع استعماري استيطاني، هدفه إحلال جماعة مكان أخرى، وتغليف ذلك بادعاءات دينية وتاريخية مجتزأة. فالتاريخ لا يُكتب بالمحو، ولا تُثبت الحقوق بإنكار وجود أصحابها.

لغويًا وثقافيًا، تكشف المنطقة عن تداخل ساميّ عميق، حيث انحدرت العربية والعبرية والآرامية من جذعٍ لغوي واحد. غير أن هذا التداخل لا يمنح حقًا سياسيًا، ولا يبرّر اقتلاع شعبٍ حيّ لصالح رواية مُستحدثة. فاللغة، مهما بلغت صلتها بالأصول، لا تصنع شرعية الاحتلال، ولا تُسقط حق الإنسان في أرضه وبيته وذاكرته.

لقد وُضع الفلسطيني بين المطرقة والسندان: مطرقة القوة العسكرية الغاشمة، وسندان السرديات المضلِّلة التي حاولت تشويه الضحية وتجريم وجودها. ومع ذلك، صمدت الحكاية. صمد الفلاح في أرضه، وصمد الاسم في الذاكرة، وصمد المفتاح في المنافي شاهدًا على بيتٍ لم يُنسَ. لم تكن فلسطين يومًا صفحةً بيضاء تُكتب من جديد؛ إنها كتابٌ مفتوح على تاريخٍ لا يقبل الشطب.

إن تفنيد الأكاذيب لا يكون بالشعارات وحدها، بل بإعادة الاعتبار للحقيقة الموثَّقة: فلسطين لأهلها الذين عاشوا عليها، وحموا مقدساتها، ونسجوا ثقافتها، وواصلوا حضورهم رغم كل محاولات الاجتثاث. والحق لا يسقط بالتقادم، ولا تُطفئه قوة السلاح ولا ضجيج الدعاية.

هذه ليست دعوة كراهية ولا إنكارًا لحقوق إنسان، بل مطالبةٌ بإنصاف الحقيقة. فسلامٌ يُبنى على نفي الآخر سلامٌ زائف، وعدالة تُولد من رحم الكذب عدالةٌ مؤقتة. وحدها الحقيقة—كما هي، بلا تزوير—قادرة على فتح أفقٍ لمستقبلٍ عادل، يعترف بالجذور ويصون الكرامة، ويعيد للتاريخ اعتباره، وللأرض أهلها.