كنوز نت - بقلم: سليم السعدي


في ظلّ السحابة الضبابية
بقلم: سليم السعدي

في زمنٍ تتكاثف فيه السحب فوق الوعي الجمعي، ويشتدّ فيه الضباب حتى يكاد يحجب الرؤية عن العقول قبل العيون، يقف الشارع العربي الفلسطيني تائهًا في قراراته، مترددًا في خطاه، يسير داخل سرداب مظلم وعتمة موحشة، بلا بوصلة سياسية واضحة، ولا قيادة رشيدة قادرة على الإمساك بخيوط اللحظة التاريخية الخطِرة التي نعيشها.

إنّ ما نشهده اليوم ليس حالة عابرة من الإرباك، بل هو نتاج تراكم طويل من التخبطات السياسية، وغياب الرؤية الاستراتيجية، وفقدان المشروع الوطني الجامع. سياسة عوجاء، مرتجلة، تُدار بردود الفعل لا بالفعل الواعي، وتُختزل في شعارات فارغة بدل أن تُبنى على برامج مقاومة ذكية، قادرة على تعطيل المشروع الصهيوني الفاشي القائم على الإقصاء، والتنمر، والاستعلاء العرقي، وسرقة الأرض والحقوق، والأخطر من ذلك كله: السعي الممنهج لمحو اسم فلسطين، وإنكار وجود شعبٍ اسمه الشعب الفلسطيني.

لقد أثبت المشروع الاستعماري الصهيوني أنه لا يعيش إلا على ضعف خصومه، ولا يتقدّم إلا في ظل فراغ القيادات، وانقسام الصفوف، وارتباك الخطاب. يستمدّ قوته من دعم غربي منحاز، ومن تواطؤ أنظمة عربية هرولت إلى التطبيع، لا عن جهل، بل عن مصلحة وخيانة، ضاربةً بعرض الحائط دماء الفلسطينيين، ومعاناتهم، وحقهم التاريخي والإنساني.

ولعلّ الأكثر إيلامًا في هذه المرحلة هو هذا الصمت الثقيل، صمت القيادات التي اختارت السلامة الشخصية على المواجهة، والانتظار على الفعل، والحسابات الضيّقة على الواجب الوطني. قيادات رأت ما يجري، وعرفت خطورته، لكنها التزمت الصمت، وساهمت – بالفعل أو بالامتناع – في تفاقم الأزمة، وفي إطالة أمد الفوضى والتشرذم.


إننا نقولها بوضوح، ودون مواربة: عارٌ على كل من ارتهن قراره السياسي لأموال الخليج، أو باع موقفه مقابل دعم مشبوه يُقدّم من وراء الكواليس، في الغرب أو الشرق، تحت عناوين زائفة وشعارات خادعة. عارٌ على من شارك في التطبيع، أو سهّل له، أو غطّاه إعلاميًا، بينما كانت القضية الفلسطينية تُباع قطعة قطعة، والحقوق تُقايَض بالوهم.

إنّ ما يحدث في الداخل الفلسطيني، خاصة في أراضي الـ48، ليس معزولًا عن هذا السياق. ففتح المجال أمام عصابات الإجرام، وغضّ الطرف عن انتشارها، وتركها تعيث فسادًا وقتلًا وإرهابًا في صفوف أبناء شعبنا، ليس صدفة، بل نتيجة سياسة مدروسة تهدف إلى تفكيك المجتمع من الداخل، وضرب نسيجه، وتسريع مشاريع التهجير القسري تحت غطاء “الفوضى” و”انعدام الأمان”.

الضبابية التي نعيشها اليوم ليست فقط في الرؤية السياسية، بل في غياب القرار الجريء، والتحرك السريع، والرد المناسب. لو وُجد الرد منذ البداية، ردّ وطني موحّد، قوي وحازم، لما تجرّأ المتآمرون على المضي في أفعالهم الدنيئة، ولما شعر المشروع الاستعماري بهذه الطمأنينة الوقحة.

نحن أمام مفترق طرق خطير: إما أن نستعيد وعينا، ونبني قيادة صادقة، تمتلك الشجاعة، والرؤية، والاستراتيجية، وتعيد الاعتبار للفعل الجماعي المنظّم، أو أن نبقى أسرى هذا السرداب المظلم، ندور في حلقته المفرغة، حتى يظنّ العدو أنّ الضباب سيصبح قدرنا الأبدي.

إنّ فلسطين لا تحتاج إلى خطابات موسمية، ولا إلى بيانات خجولة، بل إلى موقف أخلاقي واضح، وإرادة سياسية نظيفة، ومشروع تحرري حقيقي، يستمدّ شرعيته من الناس، لا من السفارات، ومن التاريخ، لا من صفقات العار.

في زمن السحابة الضبابية، يبقى الرهان الحقيقي على وعي الشعوب، وعلى قدرتها في كسر الصمت، وفضح المتآمرين، وفرض معادلة جديدة تُعيد لفلسطين اسمها، وشعبها، وحقها الذي لا يسقط بالتقادم.