.jpeg)
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
من سيحكم غزّة؟ — بين هلع الأحزان ووهم الاتفاقيات الأخيرة
بقلم: رانية مرجية
المقدّمة: الحزن كحاكمٍ ظلّ
منذ أن غادرت آخر موجةٍ بحر غزّة، والمدينة تعيش تحت حكمٍ لا يُشبه أيّ حكم.
لا ترفرف فوقها راية واضحة، ولا تُصدر قوانين جديدة، ومع ذلك يحكمها شيءٌ أعمق من السياسة: الحزن ذاته.
ذلك الحزن الذي صار عقيدةً يوميةً وذاكرةً جماعية، ومرآةً تُعيد للناس وجوههم المحروقة بالحروب، كلّما حاولوا أن يتذكّروا شكل الحياة.
من سيحكم غزّة؟
سؤالٌ لم يعد يعني “من سيُديرها”، بل “من سيقدر أن يتحمّلها”؟
من يستطيع أن يواجه هذا الكمّ من الألم دون أن يتشظّى؟
كلّ الذين اقتربوا من حكمها احترقوا، لأنّ غزّة لا تُحكم بالسلطة، بل بالمعنى.
ومن لا يمتلك المعنى، ستبتلعه رمالها كما ابتلعت من قبل كلّ من حاول أن يختصرها في بندٍ أو بيان.
غزّة: الجرح الذي يفضح العالم
غزّة ليست قطعة أرضٍ بين بحرٍ وحدود. إنّها جرحٌ أخلاقيٌّ مفتوح في ضمير البشرية.
هي المرآة التي تُجبر العالم على مواجهة قبحه.
حين تُقصف البيوت في وضح النهار، وتُقتل العائلات تحت أنقاضها، لا يكون السؤال فقط: “من ضغط الزناد؟”
بل: “كيف سمح العالم أن يتحوّل الألم إلى نشرةٍ يوميةٍ بلا أثر؟”
غزّة لم تعد فقط مسرحًا للدم، بل أصبحت ميزانًا لقياس إنسانيتنا.
وكلّ من يتحدث عن حكمها — من الخارج أو الداخل — يجب أن يُدرك أنّ حكم غزّة ليس امتلاكًا للأرض، بل امتحانًا للضمير.
الانقسام: تراجيديا بلا نهاية
منذ الانقسام الفلسطيني في العام 2007، تحوّل الجرح إلى جدار.
انقسم الوطن إلى سلطةٍ تُدير الضفة بأوراق التنسيق، وسلطةٍ تُدير غزّة بالأمل والدم.
الانقسام لم يكن سياسيًا فقط، بل وجوديًا: انقسام في المعنى، في الرؤية، في تعريف الوطن ذاته.
كلّ اتفاق مصالحةٍ جديدٍ وُقّع، بدا كأنّه محاولة لرتق جسدٍ ميتٍ منذ زمن.
يُصافح القادة، وتُعلَن النوايا، ثمّ تتبخر المصافحات مع أول قذيفة.
الاتفاقيات الأخيرة — التي حملت وعود “إعادة الإعمار” و“الحكم المشترك” — لم تُبنَ على ثقةٍ ولا على مشروعٍ وطنيٍّ جامع، بل على خوفٍ متبادلٍ بين القوى السياسية، وخضوعٍ لضغوطٍ إقليميةٍ تبحث عن استقرارٍ وهميٍّ على حساب العدالة.
هلع الأحزان: فلسفة البقاء في اللايقين
في غزّة، الخوف ليس رعبًا، بل طريقة حياة.
الناس هناك لا يخافون الموت بقدر ما يخافون الغياب عن المعنى.
الحياة اليومية تتحوّل إلى تأملٍ صوفيٍّ في اللايقين:
كلّ يومٍ يُمكن أن يكون الأخير، وكلّ طفلٍ يولد كأنّه وصيّةٌ جديدة للسماء.
من يعيش في غزّة يُدرك أنّ الألم ليس عارضًا، بل نظامٌ كونيٌّ يُعيد صياغة الروح.
وهنا تكمن الفلسفة: أنّ الحزن، في أقصى حالاته، يُصبح أداةً للوعي.
الإنسان الغزّي، في عمق مأساته، يُمارس مقاومةً من نوعٍ آخر:
مقاومة ضد اللامعنى.
فحين يُحاصر الجسد، يبقى العقل والروح آخر ساحتيْن للحريّة.
وهكذا، يصبح “هلع الأحزان” ليس انهيارًا، بل يقظةً كونيةً ضد العدم.
هو ذلك الرعب المقدّس الذي يُذكّرنا بأنّنا ما زلنا أحياء، رغم كلّ شيء.
الاتفاقيات الأخيرة: هندسة الخراب بورقٍ أنيق
في العواصم البعيدة، تُكتب الاتفاقيات كأنّها قصائد من زجاج.
كلماتٌ براقةٌ عن “التهدئة”، و“الإعمار”، و“السلطة الشرعية”.
لكنّ الواقع لا يعرف هذه المفردات.
فالإعمار هناك هو إعادة بناء السقف قبل إعادة بناء الإنسان،
والتهدئة هي هدنةٌ مع الألم، لا مع العدو.
هذه الاتفاقيات تُدار بمنطقٍ باردٍ: كيف نُبقي على النار تحت الرماد دون أن تنفجر؟
كيف نحكم الغضب لا بالعدالة، بل بالتعب؟
لكنّ التاريخ لا يرحم الحلول المؤقتة، ولا يُغفر لهندسة الخراب باسم السلام.
غزّة تحتاج إلى مشروع إنسانيٍّ، لا إلى “اتفاق إداريّ”.
إلى من يراها ككائنٍ حيٍّ، لا كملفٍّ أمنيٍّ أو ورقة تفاوض.
من سيحكم غزّة حقًّا؟
قد يحكمها من يحمل البندقية، أو من يملك مفاتيح المعابر، أو من يوزّع المساعدات.
لكنّ هؤلاء كلّهم مؤقتون.
الحاكم الحقيقي هو الوجع ذاته، ذلك الذي يُوحّد الناس رغم اختلافهم،
والذي يجعل أمًّا مفجوعة تُقاسم خبزها مع طفلٍ غريب لأنها تعرف معنى الفقد.
من سيحكم غزّة؟
ربّما ستُحكم يومًا بشفافية البحر الذي يجاورها:
تحتشد فيه الملوحة والحرية معًا، ولا يستطيع أحد أن يملكه.
غزّة لا تُحكم، غزّة تُصغي فقط لمن يُحبّها دون شروط.
وأول شرطٍ للحكم فيها أن تُنصت لنبضها، لا لأوامر الخارج.
الخاتمة: الحاكم الذي ننتظره
الحاكم الذي تستحقّه غزّة ليس زعيمًا ولا حزبًا ولا فصيلًا،
بل فكرة: أن يكون الإنسان هو المركز.
أن يُعاد الاعتبار للكرامة، وللعدالة، وللحقّ في الحياة.
أن يُكتب دستورها الجديد بالحبر والدمع معًا:
“الحرية ليست ترفًا، بل هواءنا الأخير.”
وحين يأتي ذلك الحاكم — أكان فردًا أم وعيًا جمعيًا —
سيكتشف أنّ غزّة لم تكن تحتاج إلى من يحكمها،
بل إلى من يفهمها.
رانية مرجية
كاتبة فلسطينية – باحثة في قضايا الوجود والإنسان
11/10/2025 09:26 am 23