كنوز نت - عفيف قاووق -لبنان



قراءة في رواية لن ينقطع الوتر للروائي والموسيقي أحمد دهيني.
عفيف قاووق -لبنان

"لن ينقطع الوتر" للروائي والموسيقي أحمد دهيني صدرت في طبعتها الأولى عن دار ناريمان للنشر العام2025. رواية أراد الكاتب متعمدًا أن تدور أحداثها في إيطاليا معقل المافيا في وقت من الأوقات، وبالرغم من هذا الإختيار المكاني للرواية إلا ان القارىء بين سطورها يمكنه تأويل الزمان والمكان حيثما يريد. ذلك ان القضايا المثارة فيها لا تختلف كثيرا عن تلك القضايا التي ترهقنا وتحاصرنا. مثل قضايا الفساد والرشوة وتغول السلطات الدينية والسياسيَة وغيرها من المفاهيم التي تصادر العقل لمصلحة الإلتزام الأعمى.
كثيرة هي الافكار والتساؤلات التي أوردتها الرواية على شكل رسائل مشفرة تسمح بإسقاط مضامينها ومفاعيلها على واقعنا المعيوش ماضيا وحاضرا –ونأمل ان لا ينسحب هذا على المستقبل-هذه الرسائل والإشارات وردت على لسان أكثر من شخص من شخوص الرواية ولعل أوضحها وأكثرها جرأة ما أشارت إليه الرواية في فقرة "مسرحية صوت الله" ونسبتها إلى ألبرتو (وهو المفكر المضطهد المتمرد على سلطة الجماعة الدينية او الإنقياد الأعمى لها).
لم يعتمد الكاتب تقنية الراوي العليم او الصوت الواحد بل ان الرواية شهدت تعددا للأصوات وانتفت ما تسمى بالبطولة المطلقة لصالح بطولة جماعية تم إيكالها إلى شخوص الرواية كل بحسب دوره وموقعه .لذا نجد تعدداً للشخصيات المؤثرة في صناعة الحدث كما نلحظ اعتماد ما يسمى بالثنائيات كثنائية لورينزو وفيرونيكا،أو ثنائية فرنكو ولوتشيانو،وقبل هذه وتلك ثنائية ألبرتو وأماندا. إلى جانب شخصيات أخرى مثل برونو وماتيلدا وعمهما.
ويحسب للكاتب ايضا موازنته بين شخصيات روايته وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على حياديته وعدالته فأفرد المساحة الكافية لكل شخصية دون أن يظهر تحيزه لأي منها. وما الحوار الذي جرى بين برونو وفرنكو سوى خير دليل على حيادية الكاتب الذي استطاع أن يقدم لنا حوارا نزيها وشفافا بين الأخوين دون أي تدخل منه تاركا لكل منهما تقديم دفاعه وحججه، فحين اتهم فرنكو أخاه برونو بالفشل وانه يلهث وراء انتصارات وهمية، وذكّره بأنه يدعي كرهه للرأسمالية لكنه لا يجد غضاضة من الإستفادة من ثرواتها وتوزيع البعض منها على الفقراء. فإن فرنكو بالمقابل يصف نفسه أنه صادق وواضح ومتصالح مع نفسه، فلا يدعي الفضيلة ويفعل العكس ولا يٌفصّل للمصلحة رداء الدين ولا ثوبَ النضال. ليجيبه برونو بأنه هو أيضا يملك الجرأة للقيام بنقد ذاتي ، لكن الشيء الثابت لديّه هو مناهضة الصهيونية والدول الداعمة لها فهو دومًا مع المظلوم ضد الظالم. لكن رد فرنكو لم يتأخر فيقول "واهمٌإ إن كنت تعتقد بشعاراتك الفارغة ستغير العالم وسياسات الدول ".
نلاحظ من خلال هذه العينة من الحوارات بين النقيضين انها أتت صادقة وصريحة وتدفع الحُجّة بالحُجَة.وربما قد تبدو الغلبة فيها لفرنكو الذي بالقطع لا تلتقي قناعاته مع قناعات الكاتب.

 ولأنّ الكاتب –مطلق كاتب- لا بد وان يظهر طيفه لدى شخص ما من شخوص روايته فهذا يدفعنا للإعتقاد بأن لورينزو-أحد أبطال الرواية - فيه الشيء الكثير من أحمد دهيني الذي يلتقي معه في هوايات وهموم مشتركة وفي البحث عن أجوبةٍ لأسئلة شائكة كما أن عشقهما للموسيقى وشغفهما بالعزف هو أحد القواسم المشتركة بينهما. لا بل إنّ أحمد دهيني هو نفسه لورينزو الذي لم يستطع أباه أن يشتري له آلة موسيقية فعمد إلى دقّ مسماريْن في خشبة وربطهما ب(مغيّطة مصاري). وهو نفسه الذي يهوى منذ الصغر قراءة القصص.
     بالعودة إلى الروايه وكما أسلفنا فقد أشارت إلى المافيا الإيطالية وتغولها على كافة القطاعات الاقتصادية،الرياضية،الإعلامية،القضائية وحتّى السياسيّة. كما أشارت إلى ظاهرة الفساد التي أصبحت أشبه ما تكون بثقافة عامة وسياسة معتمدة لدى القوى النافذة بأساليبها الملتوية ليس اقلها الرشوة وهذا ما تشير اليه عند التطرق لشراء المباريات الرياضية ونتائجها وأساليب الترهيب والترغيب التي يتعرض لها اللاعبون واستخدامهم للتخلص وأذية غيرهم من اللاعبين كما حصل مع لورينزو.
كما استطاع الكاتب ان يجعل من قصة الحب التي نشأت بين لورينزو والفتاة الأرستقراطية فيرونيكا مدخلا للولوج والتبحر في الأحداث. ليطل من خلال هذه العلاقة على العنصرية والتمييز الطبقي الذي كان وما يزال سائدا، لذا نجد فرنكو شقيق فيرونيكا يحذرها من مغبة التمادي في العلاقة الغرامية مع لورينزو كونها تنتمي إلى عائلة عريقة وعظيمة لها تقاليدها في حين ان لورينزو من عائلة وضيعة وإرهابية على حد زعمه.
 إذا ما حاولنا التوغل في شخصيات الرواية نجدها متنافرة ومتباعدة وكل منها يعتنق مبادىء وقيم لا تنسجم مع الآخر، شخصيات يمكن للقارىء وبكل سهولة ان يلصق كل منها بشخصيات معاصرة في مجتمعنا الحالي مع تغيير بسيط في الأسماء، وسنحاول في هذه القراءة الإضاءة قدر الإمكان على تلك الشخصيات أو بعضها وما تحمله من دلالات.

 1- برونو الأخ الأكبر في عائلة مارفيللينو لكل من فرنكو وفيرونيكا يمتازبشخصية متأرجحة تعاني من اضطرابات فكرية وعقائدية، لكن لديه ميل كبير لمساعدة الفقراء ومعارضة شديدة للرأسمالية والصهيونية لدرجة انه شارك في القتال ضدها عند اجتياح لبنان 1982 كما.تنقل في إلتزامه السياسي من اليساربمختلف فصائله وصولا إلى التيارات الإسلاميّة، ولكن ما اصابه بالخيبة ان صديقه الشاعر المناضل قتل على يد إحدى الجماعات الإسلامية التي يؤيدها وأن صديقته الصحفية بيناكا قتلت هي الأخرى في تفجير إحدى السفارات على يد نفس الجماعة.هذان الحدثان اصابا برونو بخيبة أمل من كل تلك الأطراف التي ساندها في يوم من الايام ووجد أنها غارقة في مستنقع الإجرام والمصالح والنفاق لا بل الخيانة أيضا فقرر العودة للمشاركة في إدارة أعمال العائلة.
وفي محاولة منه للإندماج بنشاط العائلة الإقتصادي إكتشف من خلال تدقيقه في سجلات شركة العائلة، الكثير من المخالفات الناجمة عن صفقات مشبوهة بتدبير من شقيقه فرنكو ومساعده لوتشيانو. ولكونه قارب المحظور واقترب من كهف أسرار الشركة فقد دفع حياته ثمنا بموافقة ضمنية من أخيه فرنكو.
 

2- فرنكو: الأخ الأصغر ولكنه على النقيض تماما من برونو، فهو يطمح للوصول إلى مكانة مرموقة في عالم المال والأعمال إضافة إلى رغبته في دخول عالم السياسة . ولا يتوانى عن اللجوء إلى شتى الوسائل للوصول إلى ما يصبو إليه فكل شيء لديه مباح طالما يحقق الغاية المرجوة والهدف المنشود.
ووجد في مؤسسة (جي-آي) السبيل الوحيد للوصول إلى القمة في الميدان الإقتصادي والسياسي.



3-لوتشيانو بروتو: من عائلة متواضعة ولكنه يمتلك قدرا كبيرا من الدهاء والذكاء، شاب إنتهازي بكل ما للكلمة من معنى، تنقل بين الأحزاب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين لأجل تحقيق غاياته، فالغاية عنده تبرر الوسيلة. كان عضوًا في المافيا التوسكانية وأصبح شخصية محورية في عالم الجريمة المنظّمة.


4- مؤسسة جينتي إنتليجينتي: هي شخصية إعتبارية من شخصيات الرواية، عبارة عن مؤسسة مافياوية امتدت أذرعها لتطال كافة القطاعات الإقتصادية والرياضية والسياسية بما فيها الإعلام.وتعرف اختصارًا ب "جي آي" تتبنى عقيدة عنصرية قائمة على مفهوم نقاء الدَّم واعتبار بعض الأنساب أرقى وأرفع من بقية الأنساب وأحقّ بالقيادة، فالحكم ليس حقَّا للجميع بل هو مسؤولية تمنج فقط لمن اختارهم الله بحكمته. وأن هناك حطّة إلهيّة لتحديد مصائر البشر وان هذه المنظمة هي المكلفة من الإله بتنفيذ هذه الخطّة. فأوامرها ليست قرارات بشرية بل هي جزء من إرادة كونية عليا.


 5- لورينزو: شاب يمتلك صوتاً غنائياَ ويتقن العزف على آلة المندولين، ويعشق لعبة كرة القدم التي هي شغفه الأهم إلى جانب انجذابه للقراءة والأدب والسياسة. وهوشخصية مسالمة لا يؤمن بالعنف كما يقول بغض النظر عن عدالة القضية التي يناضل لأجلها. وقد ربطته علاقة حٌب مع فيرونيكا التي تشاركه الشغف نفسه بالثقافة والأدب
أسهب الكاتب في الإشارة إلى فلسفة لورينزو والمبادىء التي يؤمن بها ولعل أهم هذه المبادىء نظرته لمفهوم الإله الحق ونقده للثقافة الدينية المهيمنة آنذاك. وباختصار تناولت الرواية سواء على لسان لورينزو وقبله ألبرتو كانتابيلي الصراع بين مشروعين وانا أسميه الصراع بين ثقافتين ثقافة التلقين والطاعة العمياء وثقافة السؤال والإنتقاد.إنّه صراع بين عقل يستيقظ وسلطة أدركت أن يقظته تهدد عرشَها. لذا نجد البرتو -الذي لوحق من قبل محاكم التفتيش ولم يتراجع عن أفكاره فأدين بتهمة الهرطقة-.يقول "ان الأديان حين تفقد بُعدها الإنساني تتحول إلى مؤسسات تخشى السؤال، فتُكفّر الحائر وتعذّب المفكَر". كما أنّ أسوأ الشرور وأكثرها قبحًا تلك التي ترتكب بإسم الله والدين لأنها تعطي شرعية وقدسية لتلك الافعال وتجعل من الله راعيا رسميا لها. ويصف لورينزو ما تعرض له ألبرتو على يد محاكم التفتيش فيقول "ما حصل لألبرتو كان نتيجة صراع بين مشروعين متضادين، مشروع يسعى لتحرير الإنسان وحثه على التفكير ومشروع آخر متمثل بسلطة دينية وسياسية قمعية رسخّت وجودها على إخضاع الناس وعلى اعتماد مبدأ الطاعة العمياء."(103).

إنّها ثقافة التلقين كما قلنا التي نحن لسنا بمنأى منها فهي تحاصرنا بإنتاجها بنية سياسيّة دينية تمارس الهيمنة من خلال احتكار الحقيقة وتكفير كل من يجرؤ على طرح سؤال أو المطالبة بالعدل، والغاية من ذلك هي بقاء الهيمنة وتثبيت السلطة واستغلال الناس باسم المقدَّس الذي استُخدم لتأليه السلطة وليس لتأليه الإله الحق. فالإله الحق لا يخشى الفكر ولا يهاب التساؤل، الإله الحق منارةٌ للفكر الحرَ. وكما يقول لورينزو " لقد غرسوا فينا صورة لإله لا يسعه عقل ولا يطمئن له قلب ولا يرضى به ضمير".(81). كما أن فكرة الطاعة العمياء البعيدة عن المعرفة أو التفكير لا يمكن أن تكون منبثقة عن إله عظيم، بل هي فكرة لا تصدر إلّا عن مستبد. وأي دعوة إلى انقياد أعمى هي دعوة إلى استعباد الإنسان. وهنا أقتبس (بتصرف) بعض ما ورد في كتاب "العقل المحاصَر" للدكتور مروان الدويري بما مفاده بإنه عندما يصبح الدين يتدخل في كل شاردة وواردة في حياتنا فهذا يعني منعنا من التفكير وهذا يعتبر إنتحاراً للعقل.
وفي موضع آخر وللدلالة على سطوة ما يسمى برجال الدين أوالسياسة (لا فرق)، يوضح لورينزو كيف أن "الباطل يتقن ارتداء عباءة الفضيلة والقداسة ليخدع البسطاء من العامة".(60) وأنّ اخطر ما نواجهه هو تلك الآلهة البشرية الذين يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة. ويسهب الكاتب على لسان شخوص روايته بالغوص في المفهوم الحق للإيمان فالصراع ليس بين الإيمان بالخالق من عدمه بل هو صراع بين المفاهيم والقيم، بين الحق والباطل بين الخير والشر بين العدل والظلم.
نقطة أخرى غير بعيدة عن ما ذكرناه تناولتها الرواية هي مسألة التعصب الأعمى، فالمتعصب يرى نفسه أرقى من سائر البشر، ولا يرى الوسيلة بميزان أخلاقي بل يراها بعيون الغاية.والمتعصّبُ المؤدلج يرى نفسه أرقى من سائر البشر، ولأجل ثمرته المقدّسة لا بأس عنده من أن تٌحرَق بساتين من الثمر وأن يباد الآلاف من البشر، كما أنّه لا يرى الوسيلة بميزان أخلاقي بل يراها بعيون الغاية وهنا تكم خطورة تأليه الغاية. حيث يتحول الفرد إلى عبدٍ للنصّ أعمى في تعصُّبِه جامد في فهمه.
يجاهر لورينزو بمناداته بالدولة المدنية وفصل الدين عن الدولة، لأنه حين يُزَجَ بالدين في الشأن العام تصبح الدولة ساحة للإستعباد بدلا من أن تكون فضاءً للعدالة.

لا بد من التنوية والإشارة إلى الإحساس المرهف والشاعري الذي لم يغب عن قلم الكاتب وهو الموسيقي خاصة في أحاديث الود والغرام بين لورينزو وفيرونيكا، يقول لورينزو مخاطبا محبوبته:"علينا أن نتعامل مع بعضنا كما يتعامل الموسيقي مع آلته الوترية، فالوتر إذا ارتخى فقدَ صوته وإذا اشتدَّ تمزق وانقطع،الخيار الأمثل يبقى في ظبطه بدوزان يمكنه من أن يصدح بأعذب الألحان،وأشعر الآن أنكِ وتّري ونغمي ونحن كاليد والوتر لا يكتملان إلّا معاً كأغنية تعانَقَ فيها الحرف والنّغم، وأتِ للحروف منتهى التّمنِّي وملهمة النغم على وتر المُغنّي".
 .. في إشارة إلى التناغم بين قوى المافيا والنفوذ وبين ما يسمى زوراً التيارات الإسلامية او الجهادية نجد ان الكثير من تلك المجموعات المتطرفة ما هي بالحقيقة سوى أدوات من صنيعة الغرب وقوى الشر لإستخدامها في تنفيذ مخططاتها القذرة ، كما هي الحال مع لوتشيانو الذي لجأ إلى تحفيز المتطرفين الإسلاميين وتحريضهم على قتل لورينزو.

وكأن الكاتب يؤمن بشكل أو بآخر بتلاقي الأرواح او بتوأمتها فأتت قصة الحب التي جمعت لورينزو مع فيرونيكا وما رافقها من أحداث دراماتيكية بمثابة نسخة مستجدة ومشابهة لتلك القصة التي جمعت كل من ألبرتو و أماندا ميديشيتي ابنة العائلة الحاكمة، ووجدنا أوجه تشابه كثيرة بين المحبين الأربعة في هاتين القصتين، فكما كان ألبرتو مناهضا للسلطة القمعية والدينية أدت إلى ملاحقته وإضطهاده وحتى إضطراره للإختباء في أحد الأكواخ كذلك كان لورينزو يمثل بشكل أو بآخر النسخة الثانية لمسيرة ألبرتو في تمرده وإصراره على فضح المفسدين وعملياتهم من خلال مقالات يكتبها. وكما كانت أماندا السند الخفي لالبرتو ومساندته كذلك كانت فيرونيكا حاضرة للتخفيف عن لورينزو وما يعانيه من متاعب مالية وغيرها. ويبدو أن قدر الأحرار ان تكون حياتهم ثمنا لما يؤمنون به فقد انتهى الأمر بألبرتو أن حكم عليه بالحرق وأيضا لورينزو استطاع لوتشيانو ان ينتزع موافقة مؤسسة جي.آي على تصفيته.
ومهما كانت النهاية المأساوية التي أصابت الرجلين إلا أن هذا لا يعني ان الوتر قد انقطع وأن الأمل بالتغيير قد انتفى ، بالعكس فكما يقول لورينزو إنّ البحث عن الحقيقة لا يعني بالضرورة الإبتعاد عن الله بل العكس فإن علاقتي بالله ليست قائمة على الخوف بل على الانسجام العميق مع قيم العدالة والمحبة والرحمة. لذا فما يربطني بالله هو وترٌ دائمُ النغم ولا يمكن أن ينقطع.
ختاما نقول للكاتب أحمد دهيني مبارك لك هذا الإصدار ونغبطك على جرأتك في تناول هذه الإشكاليات على أمل ان لا ينقطع الوتر ليبقى يرفدنا بالمزيد من الإبداعات.