
كنوز نت - بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
المحنة بوصفها محكًّا للذات: بين رافعة الوعي ومشجب العجز:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
إنّ الأحداث الجسام، بما تحمله من وقعٍ زلزالي على النفس والوعي الجمعي، ليست مجرّد وقائع طارئة تندرج ضمن مجرى الزمن، بل هي محكّات وجودية تختبر منسوب المناعة الأخلاقية، ومقدار الحصافة الفكرية، ومدى الجهوزية لدى الأفراد والمجتمعات للتفاعل مع المصير. وفي هذا السياق، تغدو الأزمات الكبرى أشبه بمرآة وجودية لا تعكس ما فينا فحسب، بل تفضحنا أيضاً. فحين تنفجر الكارثة، أو حين تُستدرَج الأمم إلى حافة السقوط، فإنّ الطريقة التي تستجيب بها تكشف عمق البنية النفسية والثقافية، وتُعرّي طبيعة العلاقة التي يقيمها الإنسان العربي مع ذاته وتاريخه ومجتمعه.
هناك مسلكان رئيسيان يتنازعان الاستجابة لهذه الهزّات: الأول يتجلّى في الانكفاء إلى جلد الذات ونقدها، لا بوصفه فعلاً نقدياً عقلانياً، بل كنوع من اللذة المازوخية التي تتحول فيها الهزيمة إلى ذريعة للاستغراق في العجز، والركون إلى ما أسماه نيتشه بـ"أخلاق العبيد"، حيث تُلقى تبعة الخراب على الآخر، سواء كان هذا الآخر من الأحياء أو من سُلالة الموتى، وتُستحضر المشاجب التاريخية لتُعلَّق عليها كل خيباتنا.
أما المسلك الآخر، فهو ما سلكته أمم خرجت من رمادها مثل اليابان بعد هيروشيما وناكازاكي، أو ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تحوّلت الكارثة إلى لحظة ولادة، والمحنة إلى رافعة وجودية، والصدمات إلى بوابة للعقلنة والتجاوز. إنها القدرة على تحويل الضارة إلى نافعة، والهزيمة إلى درس، لا إلى قدر.
في مجتمعاتنا العربية، لمّا تزل هذه القدرة كامنة، مختنقة في أغلب الأحيان بفعل المنظومات السياسية والثقافية التي تُعيد إنتاج الهزيمة بوصفها قدراً مقدساً لا مفر منه. حتى الحراكات الشعبية التي انطلقت في السنوات الأخيرة، رغم تنوع دوافعها، سرعان ما تمّت محاصرتها داخل قوالب التخوين والاتهام والانقسام، فعوض أن تُثمر وعياً جديداً أو تعيد هيكلة العقل الجمعي، تمّ تفريغها من محتواها التحرري، وجرى تبديد طاقتها في صراعات عبثية، أشبه بإعادة تدوير للهزيمة ذاتها.
إنّ العقل الجمعي، حين يُدمن البحث عن مشاجب خارجية لتحمّل عبء التاريخ، يُفرغ الذات من مسؤوليتها، ويكرّس الاستقالة من الزمن. وكما يقول عبد الله العروي، فإنّ عجزنا عن إدراك أن التاريخ هو نحن، لا غيرنا، يرسّخ فينا القابلية للاستبداد لا بوصفه ظاهرة سياسية، بل كمكوّن في بنية الوعي ذاته.
من هنا، فإنّ المحنة لا تكون رافعة إلا حين تُقابل ببنية ذهنية قابلة لإعادة البناء، وبوعي مستعدّ لإحداث قطيعة مع ثقافة المظلومية والاستسلام، وبنقدٍ للذات لا ينقلب إلى جلدٍ وجوديّ، بل يتحوّل إلى مساءلة عقلانية تسعى لفهم العطب لا تأبيده.
المحنة، إذن، ليست نهاية، بل ممكن بداية. ولكن هذا المشروط مرتهن بقدرتنا على تحويل الوعي المأزوم إلى وعي نقدي فاعل، وبتخلّينا عن عادة البحث عن مشاجب تُغنينا عن الاعتراف بأننا نحن – نحن فقط – من يصوغ المصير، أو يُعيد إنتاج الهزيمة.
08/07/2025 09:59 pm 334