
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
الطفولة المصلوبة على صليب العالم: قراءة وجدانية فلسفية لقصيدة "الطفولة المنسية"
بقلم: رانية مرجية
في نصّه الشعري العميق "الطفولة المنسية"، لا يكتب الدكتور عبد الرحيم جاموس قصيدة فحسب، بل يفتح جرحًا جمعيًا، إنسانيًا، نفسيًا، وأخلاقيًا في وجه العالم المتبلّد، فيعيد إلى الواجهة سؤالًا فلسفيًا قديمًا جديدًا: ما جدوى الطفولة إن كانت لا تُحْمى؟ وما جدوى العالم إن كان لا يصونها؟
القصيدة مكتوبة بلغة شديدة النقاء والألم، لكنها تتجاوز حدود اللغة لتصبح شهادة وجدانية على زمن باتت فيه البراءة هدفًا للرصاص، وصوت الضحك جريمة في ميزان الاحتلال. منذ سطرها الأول، حيث يتساءل الشاعر "أين ريح الصباح؟"، ندخل إلى عالم مفقود لا لأنه لم يوجد، بل لأن العالم قرر اغتياله عمدًا، في صمتٍ مخيف.
الطفولة كرمز فلسفي ووجودي
القصيدة تطرح الطفولة ليس فقط كمرحلة زمنية، بل كجوهر للوجود الإنساني، كرمز للنقاء الأول، للحلم، وللحب الخالص. الطفولة، في هذا النص، ليست مجرّد ضحكة أو دمية، بل هي حجر الأساس للسلام النفسي والروحي للبشر. حين تُذبح الطفولة في غزة، لا يُقتل الطفل فقط، بل تُقتل إمكانية العالم في أن يشفى.
في تساؤله "أين دُماهم؟"، لا يبحث الشاعر عن ألعابهم الضائعة، بل عن المعنى ذاته للحنان، عن رمزية الأمن، عن هوية الطفولة ككائن يجب أن يُحتضن لا يُدمّر. الأم، في القصيدة، تحضر بوصفها الحضن الكوني، حاملة الغطاء الحُلُمي والحبّ الناري في آنٍ واحد، لكنها هنا عاجزة، مذهولة، تبكي الوطن من خلال بكائها على وليدها.
الصدمة النفسية ومأساة الإدراك
من الزاوية النفسية، القصيدة تحاكي ما يُعرف بصدمة الشهود – ذلك الألم العميق الذي يولّده العجز عن حماية الأبرياء. الأم، في ذهولها، لا تمثّل أمًا بعينها، بل تمثل الأم الجمعية، الوعي الجمعي العربي والعالمي الذي يشاهد دون أن يستطيع – أو يريد – أن يتدخل. إنها صورة الإنسان في أقسى حالاته النفسية: مشلولًا أمام الألم، متفرجًا على المذبحة وقد نُزعت منه قدرته على الفعل.
الملاجئ والخذلان: رموز الخيانة الكونية
حين يتساءل الشاعر "ماذا تقول الملاجئ؟"، فإننا أمام صورة فلسفية عميقة. الملجأ الذي يفترض به أن يحمي، يصبح شاهدًا على الضيق والخذلان. الجدار لا يتّسع إلا لدمعة، والسقف لا يحتمل سوى صوت الموت، وكأن الملاجئ تحوّلت من مأوى إلى قبر صغير، من احتضان إلى عزلة، من أمان إلى ترقب الموت.
أما الأمم والمواثيق، فهي الأكثر حضورًا – لا من حيث الأثر – بل من حيث الغياب. فالقصيدة تدين النظام الدولي لا من زاوية سياسية، بل من بعد أخلاقي وجودي: كيف تدفن "طفلة بين بنود حقوق الإنسان"؟ هذا السؤال وحده يُدين الإنسانية كلها، ويعيد النظر في معنى "الشرعية" عندما تصمت عن المذبحة.
العالم المصلوب والنزيف المستمر
ربما تكون أقسى سطور القصيدة في نهايتها: "ولا حتى كفن بلون البراءة"، و"الطفولة تُصلب". هذه صورة إنجيلية بامتياز، الطفولة كـ"مخلّص" يُصلب دون فداء، والعالم ينظر بصمت. لا يسعى الشاعر إلى مجرد توصيف الموت، بل إلى تشريح صمت العالم، إلى فضح تواطؤه، إلى إدخال القارئ في محاكمة ضمير.
في ختام النص، لا يقدم الشاعر عزاء، بل صرخة. صرخة فلسفية – نفسية تُفجّر في وجهنا مرايا الذات: من نحن إن لم نستطع حماية الطفل؟ ما معنى القانون إن خذل البراءة؟ ما جدوى الشعر إن لم يصرخ؟ إنها قصيدة تشكّل في جوهرها وثيقة اتهام للعالم، وقسمًا جديدًا بالبراءة المغدورة.
في زمن يعتاد فيه العالم على صور الأطفال تحت الأنقاض، تأتي قصيدة "الطفولة المنسية" لا لتوقظ الضمير، بل لتؤنّب الروح، وتعلن صراحة: لقد خذلنا الطفولة. بل خذلنا أنفسنا.
11/07/2025 06:08 pm 25