.png)
كنوز نت - قراءة خالدية ابوجبل
ملجأ الكلب السعيد : رواية الكاتب الفلسطيني سهيل كيوان
قراءة خالدية ابوجبل
ملجأ الكلب السعيد : تقع في 297 صفحة من الحجم الوسط إصدار "مكتبة كل شيء" حيفا.
عنوان يشي بكاتبه أنّه قد اتّخذ من السّخرية اللاذعة -وقد تكون القاصفة- في أحيان كثيرة طريقة ودربًا، لكن ما يفاجئ القارئ هو أن الكاتب يسرد حكاية كلبةٍ وجرائها ،ليجعل منها حبالا متفرّقة أبقى رباطها بيده، إلّا أنّها امتدت بحريّة لنتتبع من خلال هذه الحبال سرديّة تدوّن وقائع حياة مجتمع كاملة، رغم تفرّعها وتعايشها في أمكنة وأزمنة شتى. تشتغل تيمات سهيل كيوان على محور أفقي وعمودي وآخر تركيبي بينهما من داخل الزمن في مستوياته الثلاثة، الماضي القريب والرّاهن والمستقبل.
إنّها تيمات حيوية تُجسّد البحث المستمر عن السؤال والعلاقات الإنسانية من منظور البحث عن القيّم. وهي مثاقفة ذات مساحة تلجأ إلى كافة الحقول المنفتحة التي تُغذي النص الروائي بنسغ المعرفة والإمتاع. فجاء الخطاب عنده ذكيًّا جميلًا، فلم يكن همّه ما يُقال فقط، بل كيف ولماذا يُقال ومن يُسمح له بالكلام. من خلال قلمه الساخر الذي أجاد رسم ذوات الشخصيات ومسارات أرواحها في عراكاتها اليومية مع الواقع واللاواقع.
حكت الرواية عن مصائر إنسانية تحيا وسط الصراع وتُكافح من أجل مبادئ تُمتحن ومشاعر تُفتقد. في خطوة رائعة، قسّم كيوان روايته إلى ستة وعشرين فصلا وكلّ فصل ضم عدة أجزاء، تتبعنا من خلالها حياة شخوص الرواية ومصير الجراء. وقد لا أبالغ لو قلت أن كلّ فصل يصلح لأن يكون منبّتًا لرواية. نجح كيوان في جعل كلّ شخصية من شخصياته تمثّل مأساة معيّنة أو قضية كبرى.
على سبيل المثال لا الحصر تلك الطبيبة البيطرية الرّوسية التي قدمت إلى إسرائيل، ليس حبّا ولا انتماءً ولا لكونها تريد وطنا وما يستلزمه الموطن من علاقة وألفة، هي لا تتعدى كونها تريد مكان إقامة ومكان عمل ثابت لكسب المال. وهذا هو حال الكثيرين ممن قدموا إلى البلاد. مثال آخر كاترينا الروسية أيضًا زوجة الطبيب العربي إدريس التي ادّعت أن جدتها يهودية لتحصل على هوية إسرائيلية وتنال كلّ مُستحقاتها. إنّها تيمة بؤرية أخرى تتمثل في البحث عن الهوية وسط عالم تداعت رموزه وقيّمه، عالم يكسر الالتباس وفجوات الاندحار والتراجع. وما تلقته كاترينا من تهديد من قبل الجماعات اليهودية المتطرّفة يُعيدنا إلى قول الجندي المتقاعد مردخاي: على الدولة أن تسن قانونا يمنع زواج اليهوديات من أولاد العرب.(من رواية شاربا مردخاي وقطط لارجنة، للأديب الفلسطيني محمود شقير( وهذا مثال آخر، المحامي البارع نصري جاد الله الذي خسر أرضه لصالح شريكه اليهودي بسبب خساراته المتكررة وإدمانه على القمار والسفر والخمر والنساء، لتصبح أرضه التاريخية التي ارتوت من عرق جبين والده وأجداده- مقبرة للحيوانات الأليفة!! وهذا المثال يضعنا مباشرة أمام التحول الذي استّجد على الرواية الفلسطينية ما بعد ال٤٨،حيث كان محور الصراع قبل ال٤٨وزمن الانتداب وتوافد الجاليات اليهودية، على الإصرار والتمسك بالأرض مقابل كلّ العروضات والإغراءات الممكنة وحتى القوة والانتهاكات بكافة اشكالها لم تجعل الفلسطيني يتنازل عن أرضه، بغض النظر عن من سوّلت لهم أنفسهم آنذاك بالبيع. لذا جاء هذا المثال ليعبّر عن سوء الوضع الراهن بكل المقاييس.
نجح كيوان في جعل روايته حيّة فبعد أن تُنهي القراءة قد تسير في الشارع لترمي على الكثيرين أسماء شخصيات من الرواية، حيث تحقّق الشّخصية كونها قطعة من الحياة تتضمن فعلا إنسانيًا يخضع إلى المنطق والضرورة كما يحصل في الحياة الواقعية. أعطى كيوان لشخصيات روايته حرية التصرف وقد وفَرَ لها أقصى قدر للحركة والتفاعل الحي وسط المناخ الذي تعيش فيه، وفي الوقت ذاته امتلك الجرأة لإعادة النظر وإفساح المجال أمام الجديد والضروري الذي يلائم هذه الشخصية ويجعلها أكثر قدرة على إبراز ما تحفل به من خصوبة وإمكانية لتكون في النهاية شخصية حقيقية من لحم ودم.
فقد ترك لشخصياته هامشًا عريضًا لكي تتفاعل فيما بينها من أجل أن يأخذ الحدث إيقاعًا هادفًا وحقيقيًا. رأينا كيف كانت الكلمة تُولد أخرى كما أن الفكرة تستدعي غيرها، والحدث مثل حجر يُلقى في الماء إذ يُحدث دوائر متعاقبة ومتسعة، والكلمة والفكرة والحدث من شأن أي منها أن ينعكس على الشخصيات وبالتالي يدفعها إلى موقف أو آخر، وهذا الموقف أوجب أن يُعدل مساره باستمرار.وقد ظهر كلّ ذلك في التطورات التي لا تكُفُ عن التوالد والتأثير على المسارات. هذه الحرية أعطت للراوي المساحة الكافية لقول الكثير من خلال مواقف وحالات يراها أكثر ملائمة، بحيث لا يكون مضطرًا لأن يجعل شخصية بذاتها أو حالة بمفردها، قوله الكامل.
في هذه الحالة من الحرية الشخصية تُنفذ أفعالا كبيرة وهي ما تبقى في ذهن القارئ، وبالتالي تعطي الشخصيات صفات حقيقية، إذ يمكن من خلال هذه البيئة استعادة الحياة التي كانت كأفكار وصراعات، كما يمكن من خلالها معرفة الظروف التي لازمت الأحداث السائدة ونمط الحياة والعلاقات المُسيطرة. في مثل هذه الأمكنة نكتشف ونتعرف إلى الحياة القائمة دون تزييف. مُكَوّن السفر: يجيء مكون السفر ليفتح النص على اختيارات مصيرية ويكون هو الجسر الذي تتقرر عليه المصائر والعلائق، سفر إدريس ونصري إلى الاتحاد السوفييتي هو انفتاح على حياة ومرحلة جديدة وجسر ما بين الحلم والواقع. فغياب إدريس لست سنوات جعلت منه طبيبا ناجحا، لكن ذاتها السنوات الست كانت كفيلة لسلب وتغيير معالم بلده، معالم دوار الحمار والخلّة التي ما عرفها لولا بقاء شجرة الخروب العتيقة، وفي ذات المكان دُفن والده، وأطلق على الدوار اسم "جادة السلام" ويحضرني شعر محمود درويش" طليلة البروة" "ويُقاطع الصحفي أغنيتي الخفية هل ترى خلف الصنوبرة القوية مصنع الألبان ذاك؟ أقول كلا، لا لا أرى إلا الغزالة من الشباك يقول والطريق الحديثة هل تراها فوق أنقاض البيوت؟أقول كلا، لا أراها، لا ارى إلّا الحديقة تحتها وأرى خيوط العنكبوت.." تتبعنا مسار كلبة وجرائها، وكلب جاء مهاجرا إلى بلاد السمن والعسل مهرًا لكاترين عروسًا لإدريس.
فورتونا كلبة مرعوبة تخلى عنها أصحابها حين أزمتهم فلجأت إلى عائلة عربية. تمسكنت حتى تمكّنت وأنجبت جراءها وتدلّلت رغم رفض الزّوجة صاحبة البيت واعتراضها الدائم والمستمر. اطلعنا على سوء حياة الفلسطيني في النقب، وانضمامه للجندية ظنًا منه أنّ ذلك سيُذلّل له العقوبات في أمور الترخيص والبناء والبقاء في أرضه، وذلك من خلال مسار الجرو "صاحبك" والذي وصل بنا لقصة اغتيال الطفل المتوحّد في باب العامود في القدس، حيث أُطلق عليه الرصاص بوحشية لأنه لم ينصع لأمر التوقف، وكيف جعلت هذه الحادثة من مطلق الرصاص بطلا قومية وعائلته من خلفه، وكيف استغل مكسيم شقيق مطلق النار هذه الحكاية ليدعي الوطنية والتضحية، وما هو في حقيقة الأمر لا يعنيه سوى انتفاخ جيبه بالنصب والاحتيال. أما جرو دعاء والذي أطلقت عليه اسم أول شيف كتب عن فن الطبخ، قد لا يكون غريبًا أن أقول أن حال دعاء أشبه ما يكون بحال سوريا التي أُهينت تحت فساد حكم الأسد وهيمنة كلّ من هبّ ودب من مُدعي الحق، وحين طار الأسد في ليل ما له نهار وأصبحت على حكم" شرع" بدون أيّ شرعيّة ولا انتخاب، أوّل ما فتح فمه قدّم الإنجاز الأهم وأنه سيتعاون مع إسرائيل ضد عدو مشترك! جرو حن لأمه فلا عجب... "بسبب ازدحام مروري سببه انقلاب شاحنة تحمل مئات من الاغنام كما يبدو في طريقها إلى المسلخ، ولكنها لم تهرب وبقيت مجتمعة في مكان واحد تنتظر إعادة تحميلها ونقلها إلى المسلخ "ص٢٨٦ توصيف دقيق لحال الزعامات العربية والشعوب الخانعة إلّا من رحم ربي. "في تلك اللحظات فكرت ما أسوأ ما يقوم به هذان الكلبان النذلان يحرسان محرقة لأبناء وبنات جنسهما" ص٢٩٢ أليس هذا ما تقوم به العرب إزاء المقتلة والمحرقة في غزة، وأخص صاحبيّ الحدود الاقرب عبد الله والسيسي؟ إنها الكلبة الأم بعثت بجرائها لتعيث فسادًا في الأرض المتصارع عليها، نجت من المحرقة ليس بمعجزة بل بتواطؤ الزمن وطيبة العربي وخبث اليهودي، كان ملجأها السعيد بيت العربي الذي سرعان ما استغنت عنه وارتمت في حضن من تخلى عنها في أزمته ،وهو الذي سابق الزمن ودفع من جيبه لإنقاذها من محرقة ملجأ الكلب السعيد، وبقي في المحرقة من لم يسعدهم الحظ ولا الوقت ولا الغريب ولا القريب! رواية بدأت ب"تسلل" ص ١١لكلبة ليست" ابنة المكان" ص٩ وأكلت من "ممعطة دجاج السلام" أوسلو وأدّبت جنوب لبنان بالاباتشي صادرت اراضي الجليل واراضي النقب،هدمت البيوت ولا زال الهدم سيد الموقف،فالدوريات الخضراء تقوم باجرامها على أقبح وجه، تهدم البيوت والمقابر وتزرع المتفجرات والقنابل للسكان، وفي مكان آخر تخصص أرضًا فلسطينية لتكون مقبرة للحيوانات الأليفة… أراضٍ تقاسمتها التعاونيات، عصابات تدفيع الثمن، التهديد بالموت للعرب.
رواية وضعت الإصبع على وجعنا وجرحنا النازف، السّوق السوداء، الجريمة والعصابات، الضرائب الباهظة، العراقيل التي تحول استصدار ترخيص للبناء، تضييق المساحات المخصصة للبناء، هرولة شبابنا نحو علاقات الجنس الرخيص. قضية الميراث وحق البنات المهضوم. وفوق كلّ هذا الوجع الكبيرلا بدّ من وجع أكبر ننزف فيه ما تبقى من كرامتنا ونحن ندفن في ترابنا ذلك الكلب المتهود كصاحبته " غوربي" في مراسم دفن تليق بملك. أُعطيت كلّ عافية أستاذ سهيل كيوان وإلى مزيد من إبداعك الرائع وجزيل شكري على الإهداء الجميل
خالدية أب 27حزيران2925

28/06/2025 11:51 am 99