كنوز نت - بقلم: رانية مرجية


برسيبوليس”… حين تصرخ الأبيض والأسود بلغتنا نحن المقموعين
بقلم: رانية مرجية

قرأت مقالة الزميلة اللامعة سامية عرموش، التي استحضرت فيلم برسيبوليس كمرآة للواقع الإيراني في ظل تصعيد سياسي مستعر بين طهران وتل أبيب، فهززت رأسي موافقة، ثم شهقتُ: كم من أرواحنا ما زالت تعيش بالأبيض والأسود في عالم يزعم أنه يفيض بالألوان!
تلك المفارقة بين الأبيض والأسود لم تكن خيارًا فنيًا عابرًا لدى مارجان ساترابي، بل كانت صرخة مقصودة، كأنها تقول: لا أحتاج الألوان لتصوير الأمل حين يُصادَر، ولا الدفء البصري لأرسم الوحشة حين تتحول الذاكرة إلى منفى. الأبيض والأسود هو لغة الحقيقة حين يُمنَعُ الكلام، وهو الهوية حين تُنكَر الهوية.
أن تكون إيرانيًا… أن تكون إنسانًا
ما أروع ما كتبته سامية حين ربطت الفيلم بالحاضر السياسي، وأعادت قراءته في ضوء نارٍ تشتعل من جديد في سماء الشرق. ولكن برسيبوليس، كما فهمته دومًا، لا يحكي فقط عن إيران. بل عن كل مكان يُحاصر فيه الحلم، وتُجلد فيه الطفولة، وتُهاجَر فيه النفس بحثًا عن معنى لا يتلوه المذيعون. إيران، هنا، ليست سوى استعارة كبرى: لكل نساء المشرق، لكل أبٍ ثُكِل، ولكل فتاة كانت تكتب الشِعر بالسرّ وتمزّقه قبل أن يُضبط بين دفّتي دفتر تفتيشٍ أمني.
مارجان ساترابي: منفى الرسم والكتابة
كتبت سامية عن مارجان الفنانة، وأنا أكتب عنها كلاجئة داخل جسدها، داخل صوتها، داخل لغتها. حين اختارت أن ترسم سيرتها الذاتية لا كفيلم روائي تقليدي، بل ككوميكس حيّ، فإنها كانت تعيد الاعتبار لما هو “صغير”، لما هو “نسوي”، لما هو “مُهمَّش” في سرديات العالم. أرادت أن تقول لنا إن الرسم ليس هروبًا، بل مواجهة. وإن الفكاهة السوداء ليست ترفًا، بل حائط صدّ في وجه الجنون الجماعي.
ففي أحد مشاهد الفيلم، نرى مارجان الصغيرة تجادل الله في غرفتها، تبكي، تصرخ، تبحث عن معنى، عن خيط نجاة. وهذا المشهد وحده، كفيل بأن يجعلني أبكي كلما شاهدته. لأنه يُعرّي كل القيم الجاهزة، ويضع الإيمان الفردي فوق الشعائر الجماعية التي تحوّلت في بعض الأوطان إلى أدوات قمع.
الهوية كوجع لا كعلم
توقّفتُ طويلاً أمام ما كتبته الزميلة سامية عن محاولة مارجان أن تجد مكانًا لها في أوروبا، وعن العودة “المؤلمة” إلى إيران. فالشتات هنا ليس مجرد جغرافيا. الشتات الحقيقي هو أن تكوني مُقصاةً من داخل وطنك، مرفوضة من خارجه، ضائعة في المطار بين جوازين، بين لهجتين، بين ذكريات لا يعرفها أحد، ومستقبل لا يشبهك.
برسيبوليس، بهذا المعنى، ليس فيلماً سياسيًا بقدر ما هو مأساة وجودية. يوجّه صفعة لكل نظام يرى النساء عبئًا، ولكل ثورة تأكل أبناءها، ولكل مجتمع يُقمع فيه الحب، وتُمنَع فيه الأغنية، ويُنسى فيه أن الإنسان أهم من الراية.
فلسطينية تشاهد “برسيبوليس”… وتبكي مرّتين
أنا ابنة الرملة، فلسطينية. حين شاهدت برسيبوليس أول مرة، شعرتُ أنني أراه بعيني لا بعين المخرجة. شعرتُ كأن مارجان تتحدث بلساني. ليس لأنني نشأت في ظل نظام يشبه النظام الإيراني المتشدد، بل لأنني نشأت في ظل نظام آخر لا يقل قسوة: نظام الاحتلال، والقهر الطبقي، والتمييز العرقي، والكبت المجتمعي. فكيف لا أتعاطف مع طفلة تسأل أمها: لماذا أُجبرتُ على خلع السترة، ولماذا يُعدم الناس بسبب قناعاتهم؟ تلك الأسئلة نسألها كل يوم، لكننا نُخرسها لأن الصمت أقلُّ وجعًا من الخيبة.

في الختام…
أحيّي الزميلة سامية عرموش على شجاعتها في استدعاء فيلم كهذا في لحظةٍ سياسية محتقنة. وأقول لها: نعم، ما زال برسيبوليس صرخة. لكنه لم يعد صرخة تخص إيران فقط. لقد أصبح، للأسف، فيلمًا عالميًا، لأنه يحكي وجعًا مشتركًا. فنحن في بلادنا، من فلسطين إلى طهران، ما زلنا نحيا بالأبيض والأسود. نبحث عن ألواننا المفقودة في جدار، أو في وشاح، أو في حلمٍ مؤجل، أو في فيلمٍ رسمته امرأة قالت لنا بالحبر والدمع: لا تنسوا.