كنوز نت - رانية مرجية



حين تُطهى الصفقات على جمر فلسطين
نص: فوز فرنسيس | قراءة وجدانية: رانية مرجية
النص:
جُهّزت معدّات الوليمة هناك بعيدًا بعيدًا.
منذ زمن وهم يجرّبون إعداد وجبات تجريبيّة في مطابخهم، يتذوّقون ويتباهون بتميّزهم، يستشيرون أمهر الطبّاخين، وحلّ الزّمان يومًا ليعرضوا ابتكارهم الجديد في أساليب الطّهي على الملأ.
حمّلوا لوازم الوليمة، أشهرًا وهم يعدّون المعدّات ويحزمون الأمتعة. جاؤوا بكلّ أصناف الرأسماليّة والسلطويّة والماديّة، لم ينسوا التّوابل فهي من تضيف النكهة الرائعة: كثيرًا من حبّات الخبث، أملاح الخيانة، وعيدان النّتانة.
صناديق مُحكمة مملوءة بأوراق النّشوة والنّصر، شبيهة شكلاً بأوراق الغار في شرقنا.
في أجواء ساحرة جمعت بين زرقة السماء والبحر، استقبل أهل الدار ضيوفهم والوفود مهلّلين مرحّبين، واختاروا لهم مكان اللقاء. وشرع كل واحد بإنجاز مهمّته لتبدو في غاية الجمال، فيرضى بها كلّ الحضور ويشهدوا لهم بالكمال.
جهزت المأدبة والتأم الآكلون: الطّهاة من الغرب – ومن يدري أي غشّ فيهم – والمدعوّون من الشرق – كلّ الغشّ فيهم.
أكلوا وشربوا وأتخموا، “أعطوهم من طرف اللسان حلاوة”، سمعوا واستمعوا وما تيقّظوا.
وفي غمرة سكرتهم والمُجون، سُمع صوت نحيب وعويل وراء الباب، أتبعتها طرقات وصيحات غضب وصخب. ترنّح الحاضرون يمنة ويسرة، وتساءلوا بخبث: ترى من يجرؤ فيزعج النّيام في المنامة؟
مع طلوع الفجر، شوهد أحدهم مهرولًا منطلقًا إلى الخارج ناشدًا بعض الهواء النقي. فوجئ عند المدخل ببقع دم كبيرة بأشكال مُلفتة غريبة. فرك جفونه، تبصّر وقرأ: ف.. ل.. س.. ط.. ي.. ن…
27.6.2019
القراءة الوجدانية:

ليس نص فوز فرنسيس وليمةً أدبية عابرة، بل مأدبة رمزية زاخرة بالتلميح والوجع، حيث تتحوّل أدوات الطهي والتوابل إلى شفرات سياسية، وحيث يختلط طعم الخيانة بملح البحر، ورائحة النتانة بعبق الغار المزيّف.
المشهد التمهيدي الذي رسمته الكاتبة هو تخطيط طويل الأمد لوليمة الزيف الكبرى. الطهاة من الغرب، الضيوف من الشرق، لكن المائدة واحدة، والاتفاق الخفي واحد: أكلٌ وشرب حتى التخمة، مع بعض “الحلاوة على طرف اللسان” لإسكات الجائعين إلى كرامة لا إلى طعام.
لكن الحدث المفصلي لا يقع على الطاولة، بل على العتبة التي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها: هناك، خلف الباب، نحيب ودماء تكتب اسمًا لم ولن يُمحى: فلسطين. هنا، تبلغ المفارقة ذروتها؛ الداخل في غفلة ولهو، والخارج ينزف ويصرخ، والزمن يسجّل الحقيقة بحروف من دم.
النص هنا لا يصف طقسًا سياسيًا فحسب، بل يكشف حالة الانفصال الأخلاقي بين من يصنع القرار على موائد المساومة، وبين من يدفع الثمن على الأرصفة الملطّخة بالدم.
ولأن الأدب الحقيقي لا ينفصل عن الحاضر، يمدّ هذا النص خيوطه إلى واقعنا اليوم: الولائم لا تزال تُعقد في العواصم البعيدة، والأنخاب تُرفع على حساب دماء غزة والضفة والقدس. تغيّرت أسماء الطهاة والضيوف، لكن الوصفة بقيت كما هي: وعود فارغة، تنازلات متكررة، وتوابل خيانة لا تتبدّل.
كل وليمة على حساب فلسطين ليست سوى مأتم متنكّر بزي احتفال، وكل بقعة دم على أعتاب الصباح هي جرس إنذار بأن المأساة لم تنتهِ، وأن اسم فلسطين سيظلّ يُكتب بلون الحياة نفسها، مهما حاول الطهاة أن يغطّوه بطبقات الزيف