
كنوز نت - بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
الحداثة: الانعطاف التعقِيلي وتحوّلات القول الشعري بين الفلسفة والجمال:
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
ليست الحداثة محض فصل جديد في تاريخ الفكر، ولا هي مجرّد لحظة تاريخية استبدلت ما قبلها بما بعدها، بل هي انعطاف تعقِيلي جوهري، غيّر مسار النظر الإنساني إلى الوجود، وأعاد ترتيب سلّم القيم المعرفية والجمالية. هذا الانعطاف لم يقتصر على الفلسفة والعلوم، بل امتد إلى الشعر، فأعاد صياغة هويته ومهمته ووظيفته، ليغدو فضاءً ميتافيزيقيًا متجددًا، يلتقي فيه البرهان بالمجاز، والفكر بالحلم.
لقد جاءت الحداثة بوصفها قطيعة إبستمولوجية مع طرائق التفكير القديمة، وفق ما أشار إليه غاستون باشلار، فكان لا بد أن يتجاوب الشعر مع هذه القطيعة، ويعيد صياغة لغته وصوره وأبنيته الإيقاعية. وهنا يلتقي المسار العقلي مع المسار الجمالي، في وعي مشترك بأن كلّ بناء معرفي جديد لا يكتمل إلا إذا انفتح على إمكانات الخيال.
في هذا السياق، يصرّ أدونيس على أن الشعر الحداثي ليس تطوّرًا شكليًا فحسب، بل هو ثورة في الرؤية، إذ يتحوّل الشاعر من ناقل للموروث إلى صانع لأسطورته الخاصة، ومن حافظ للإيقاع إلى مبدع لزمنه الشعري الخاص، حيث «القصيدة لا تكتفي بأن تقول، بل تبتكر ما تقول». وهنا يتبدّى البعد الفلسفي للحداثة: تحطيم البنى الجامدة، واستبدالها بفضاءات مفتوحة، يكون فيها الشعر أفقًا للتجريب والتجاوز.
أما بول فاليري فقد ذهب إلى أن الشعر «فنٌّ يُعقلَن دون أن يفقد غموضه»، وهو بذلك يضع يده على المفصل الذي يربط الحداثة بالشعر: إنهما معًا يمتحنان حدود العقل، لكنهما لا يستسلمان لبرود الحساب والمنطق الصرف، بل يفتحان المجال أمام انبثاق ما لا يمكن للعقل وحده أن يحيط به. وهذا هو المعنى العميق للانعطاف التعقِيلي: عقلنة الحسّ الجمالي دون ابتذاله، وجعل المجاز أداةً لفهم الوجود.
ويأتي هيدغر ليؤكد أن «الشعر هو تأسيس الوجود بالكلمة»، وفي ضوء الحداثة، يصبح هذا التأسيس فعلًا مزدوجًا: فعلَ تفكير وفعلَ إبداع. فالشاعر الحداثي، وهو يستنطق اللغة، يقوم بعمل الفيلسوف الذي يسائل المفاهيم، لكن بوسائط جمالية ورمزية. وهكذا تغدو القصيدة مشروعًا أنطولوجيًا، وليست مجرد بوح ذاتي أو زخرفة لفظية.
إنّ الحداثة، في انفتاحها على الشعر، منحت هذا الفن مهمة جديدة: أن يكون مختبرًا للمعنى، ومجالًا لتجريب الوجود، ومرآةً تعكس قلق الإنسان المعاصر وأحلامه. وبالمقابل، منح الشعر الحداثة ما لا تستطيع المناهج العلمية المحضة أن تمنحه: القدرة على تجسيد الفكرة في صورة، وتحويل الفلسفة إلى تجربة حسية حيّة.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الحداثة ليست فقط عقلنة للواقع، بل هي أيضًا شعرنة للعقل؛ مشروعٌ مزدوج يعيد للإنسان قدرته على أن يفكّر كما يحلم، وأن يحلم كما يفكّر، حيث يلتقي البرهان مع الرمز، والمنطق مع الموسيقى، ليؤسسا معًا أفقًا جديدًا للحرية والجمال.
09/08/2025 09:41 pm 74