كنوز نت - بقلم: رانية مرجية


في حضرة التقاعد: خمسة أصوات تتداخل في مرآة رجل واحد
بقلم: رانية مرجية

ليس من السهل أن تحوّل فعل التقاعد – هذا الحدث البيروقراطي، العابر، وربما الجاف – إلى قصيدة نثرية متعددة الأصوات، تتنازعها الفلسفة والحسرة والسخرية واللاجدوى. لكن جمال أسدي يفعل ذلك، بجرأة شاعر، وبدقة أكاديمي يعرف تمامًا متى يضرب على وتر الوجع ومتى يعزف على نغمة التأمل أو السخرية السوداء.

نحن أمام نص مركّب، لكنه لا يتكلّف التعقيد. نص يُلقى كأنه محاضرة، لكنه مكتوب بلغة شِعر داخلي، بلغة رجل لم تعد الألقاب تعنيه بقدر ما يعنيه سؤال جوهري: من أكون بعد الآن؟ أأنا الأستاذ؟ أم المتقاعد؟ أم المجنون؟ أم الحكيم؟ أم الفارغ؟

تعدد الأصوات… أم تمزق الذات؟

خمسة أصوات، لكنها في العمق خمسة أطياف لذات واحدة. الأستاذ الأول لا يزال يحاضر، يعيش متوهّجًا في سلطة الكلام ومركزية المعرفة. الثاني يئنّ من فائض الوقت والملل والخواء الذي أعقب التوديع الرسمي. الثالث يتهكم، لا من الآخرين، بل من نفسه: “أنا مجرد وظيفة تمشي على قدمين!” الرابع يريد العودة، يتوسل العودة، يعرف أن ما تبقّى من حياة سيكون بلا معنى دون غرفة الصف. أما الخامس، فهو الحكيم، أو بالأحرى من يحاول أن يبدو حكيمًا، لكنه يذوب أمام سخونة الذاكرة والمحبّة والخذلان.

هذه الأصوات ليست مونولوجات متوازية، بل صراع داخلي عنيف بين زمنين: زمن الإنتاج والانخراط، وزمن الانزواء والتهميش. جمال أسدي لا يتعامل مع التقاعد كخاتمة، بل ككابوس بيروقراطي يقطع سياق الذات ويفرض عليها تعريفًا جديدًا لا علاقة له بالجوهر.

عنف المؤسسة وصقيع الاعتراف

ربما أجمل ما في هذا النص أنه لا يقع في رومانسية الزمن الجميل ولا في نوستالجيا زائفة. بل يفضح قسوة المؤسسة التعليمية، يعرّي عنفها الرمزي: فبمجرد أن يحين سنّ التقاعد، تُرمى الخبرات في سلة الأرشيف، وتُمحى الأسماء عن الجدران، ويصبح الأستاذ – الذي كان يُشاد باسمه صباح مساء – مجرد رقم قديم في ملفات الموارد البشرية.

أسدي يُشهِر غضبه، ولكن بلغة هادئة، كمن يهمس: “لقد كنتم تستغلون معرفتي لا تحترمونها”، “كنتم تأخذون جهدي دون أن تعترفوا بوجودي”. هذه الحدة المغلفة بالأناقة هي ما يجعل النص مؤلمًا، شجريًا، بشريًا حتى العمق.

التقاعد كمجزرة معنوية

في المجتمع العربي، لا يُهيّأ الناس للتقاعد، بل يُدفعون إليه كما يُدفع المريض إلى غرفة العزل. لا احتفاء حقيقي، لا تفعيل لخبرات المتقاعدين، لا مساحات تمنحهم دورًا جديدًا. وهنا بالضبط تكمن قوة هذا النص: أنه لا يتحدث عن الأستاذ فقط، بل عن مصير جماعي، عن كل من غادر منصبه وهو يشعر أن منصبه غادره أيضًا. لقد صار المتقاعد أشبه بظلّ لا يعترف به الضوء.


وكم هي لاذعة تلك الجملة التي تختصر المأساة: “ما قيمة ما كنتُ أفعله، إذا كنتم تستطيعون استبدالي بلا حرج؟”

بين الهزل والمرارة: فن السخرية الحزينة

النص يحفل بلحظات من التهكم، من تندّر الذات على ذاتها، كما لو أن الضحك هو آخر وسيلة للنجاة من السقوط. “أنا أحاضر في الفراغ”، “الجدران أصدق من الحضور”، “اسألوا الستارة!”… عبارات تجعل من المحاضرة فعلًا عبثيًا، مسرحيًا، يذكّر بمسرحيات صامويل بيكيت، حيث يتحول الانتظار إلى مأساة صامتة.

لكن هذه السخرية لا تخفي هشاشة الداخل، بل تكشفها بذكاء. فالمتقاعِد في النص لا يسخر لأنه قوي، بل لأنه جُرّد من سلاحه الوحيد: الكلمة، المنصة، الطلاب.

جمالية الفقد والغياب

من الناحية الجمالية، ينتمي هذا النص إلى أدب الاعتراف والبوح، لكنه لا يسقط في الرثاء. بل يحوّل الفقد إلى طقس أدبي، ويجعل من الغياب موضوعًا حاضنًا للنقد والوعي. إنه نص يكتبنا نحن، قبل أن نكتبه نحن. لأن كل قارئ فيه، سيجد صدىً لأحد أساتذته، أو لصورة قادمة له هو شخصيًا.

وهنا نلمح أيضًا بُعدًا وجوديًا: “من نحن عندما لا نكون منتجين؟ ما معنى العمر إذا لم تعد فيه جدوى اجتماعية؟ هل نُعرّف بذواتنا أم بوظائفنا؟”

أسئلة معلّقة لا يجيب عنها النص، لكنه يتركها تتردّد في الذاكرة طويلاً، كأنها تدعونا للتفكير في معنى الكرامة، لا في عمر الستين، بل في كل لحظة نُقصى فيها عن الحضور الفعلي.

خاتمة: دراما من خمسة فصول لا تنتهي

“الأستاذ المتقاعد غير المتقاعد” ليس نصًا عابرًا، بل لحظة درامية كثيفة تختصر صراعات جيل كامل. وهو أيضًا وثيقة أدبية مهمّة في أدب التقاعد – إن صحّ التعبير – هذا الأدب النادر في ثقافتنا، والمطلوب بشدة اليوم، مع تصاعد أعداد من وصلوا سنّ الإقصاء الرسمي عن دوائر الحياة.

إنه نص يجب أن يُقرأ في المدارس، لا من أجل الشفقة، بل من أجل الاحترام. يجب أن يُقرأ في كليات التربية، لا كتحذير، بل كدعوة لإعادة تخيّل دور المعلم.

وإن كنتَ ممن أحببت أساتذتك، فاقرأ هذا النص مرة ثانية وثالثة، لأنك ستشعر في كل مرة أنك تودّعهم من جديد، ولكن هذه المرّة… بامتنان.