كنوز نت - بقلم: رانية مرجية


الولادة الجديدة: عبور من الظلمة إلى النور في المعتقدات السماوية
بقلم: رانية مرجية
حين نتأمل في مفهوم “الولادة الجديدة” عبر المعتقدات السماوية الثلاث، لا نتوقف عند فكرة رمزية دينية فحسب، بل أمام ارتجاجٍ وجوديّ يفضح هشاشتنا كبشر ويسمو بنا نحو إمكانية الخلاص، لا من الموت وحده، بل من الركود، من الغريزة، ومن تلك الذاكرة المتعفنة التي أورثتنا حروبًا مقدسة وأسواقًا مليئة بالآلهة المصنوعة من بلاستيك.
“الولادة الثانية” كما تسمّى في بعض النصوص، ليست اختراعًا لاهوتيًا، بل هي ترجمة روحية لرغبة عميقة في أن نُستعاد من العدم، أن نغتسل من العالم، لا لنغادره، بل لنعود إليه بقلب متحوّل، بعيون لا ترى الجحيم في الآخر، بل ترى فيه نجاتنا المفقودة.
في المسيحية: الموت مع المسيح والقيام معه
في جوهر الإيمان المسيحي، تتجلى “الولادة الجديدة” كحدث داخليّ عميق يحدث حين يقبل الإنسان المسيح مخلّصًا شخصيًا. يقول إنجيل يوحنا: “الحق الحق أقول لكم إن لم يولد الإنسان من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو 3: 5).
ليست الولادة هنا بيولوجية ولا حتى أخلاقية، بل وجودية: تحوُّل في الكيان، إنقلاب في الروح. المعمودية ليست طقسًا بالماء فحسب، بل عبورًا في بحرٍ جديد، حيث يُدفن “الإنسان العتيق”، كما يقول بولس الرسول، ليقوم إنسان جديد في المسيح.
لكن هذه الولادة لا تنفصل عن الألم. فلكي تُولد ثانية، عليك أن تموت. تموت لأناك، لغرورك، لثقافة الاستهلاك، لعقيدة الانتقام. ومَن منّا يجرؤ أن يموت طوعًا؟ أن يسلّم روحه؟ لا بالمعنى الميتافيزيقي، بل بالمعنى الوجودي: أن تترك انتصاراتك الصغيرة ومقابر أفكارك.
في الإسلام: الهجرة الكبرى من الظلمات إلى النور
أما في الإسلام، ففكرة الولادة الجديدة متجسّدة في مفهوم التوبة النصوح، و”الهجرة” من حال إلى حال، وهي أعمق من مجرد الاعتراف بالذنب، بل فعل تحوّل وجودي، كما في قوله تعالى:
“إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ” (الفرقان: 70).
أية ولادة أعمق من هذه؟ أن تُبدّل خطاياك حسنات؟
إنها ليست مجرد محو، بل خلق جديد، كأنك لم تكن، وكأنك بدأت الآن.
ولعل الهجرة الكبرى التي تحدّث عنها الصوفيون، خصوصًا الحلاج وابن عربي، كانت دائمًا هجرة الروح من الجسد، لا بالانتحار، بل بالتحرر من سطوته. فالولادة الجديدة في التصوف الإسلامي لا تحدث في المساجد فحسب، بل في الداخل، في الخلوة، حيث يواجه الإنسان ظلّه. هناك فقط يولد من جديد، لا كشخص أفضل، بل كشخص حقيقي.
في اليهودية: التِشوڤا – العودة إلى الذات الإلهية
في اليهودية، تظهر الولادة الجديدة في مفهوم التِشوڤا (תשובה)، أي التوبة، أو الأدق: “العودة”. لكنها ليست عودة إلى الماضي، بل عودة إلى النقطة النقيّة التي بدأ منها الإنسان علاقته مع الإله. إنها استعادة الصورة الأولى، قبل السقوط، قبل الخطيئة، قبل أن يتلوّث القلب بالحقد القبليّ.
التِشوڤا، حسب الحاخام أبراهام يشعيا كاريلتس، ليست مجرد ندم أو إصلاح، بل تحوّل كامل في الاتجاه، كأنك كنت تمشي نحو هاوية، فاستدرت فجأة نحو الجبل.
وتبلغ هذه الولادة الجديدة ذروتها في يوم الغفران (يوم كيبور)، حيث يصوم الإنسان، لا ليُرضي الله، بل ليكسر تمثال الأنا الذي بناه في داخله. هو اليوم الذي يخلع فيه المؤمن جلده، لا ليهرب من خطاياه، بل ليعترف بها بجرأة، ويطلب أن يُخلق من جديد.
في قلب كل معتقد: لا خلاص بدون تحوّل
الولادة الجديدة ليست حكراً على ديانة دون أخرى. إنها النداء العميق المشترك لكل نفس بشرية: أن تتحرر من عتاقها، من كبريائها، من أحكامها المسبقة، وتعود – لا إلى البراءة – بل إلى مسؤولية الحرية.
إنها ليست ولادة من رحم الأم، بل من رحم الضمير.
في عالمٍ ملوثٍ بالأيديولوجيا، بالدين السياسي، بالفتاوى السوقية، والمسيحيات التجارية، والإسلام المعلّب، واليهودية الاستيطانية، تصبح الولادة الجديدة فعل تمرّد.
نعم، أن تُولد من جديد، يعني أن تُحرّض على العفن السائد.
يعني أن تصرخ، كما صرخ بولس، أو كما أنشد الحلاج، أو كما بكى المسيح أمام أورشليم، قائلًا: “كم مرة أردت أن أجمع أبناءك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا!”
الولادة الجديدة ليست شعارًا دينيًا، بل مقاومة روحية.
هي النار التي نحملها في صدورنا، لا لنحرق بها الآخرين، بل لنصهر بها ما فينا من كذب.
هي الإمكانية الوحيدة المتبقية للخلاص في زمن صارت فيه الأمهات يلدن أجسادًا بلا أرواح، والكنائس تُصلّي للقيصر، والمساجد تُقيم ولائم للقَتَلة، والمعابد تتحالف مع الجدران.