كنوز نت - الدكتورة فاطمة ابوواصل أغبارية


الفصل الخامس والأخير. من البحث : نحو مشروع وطني للوقاية من العنف المدرسي – الرؤية والتوصيات
————
من الألم إلى الأمل: كيف نُحوّل المأساة إلى انطلاقة إصلاحية شاملة؟
حادثة مقتل الشاب في المدرسة لم تكن حادثًا فرديًا، بل ناقوس خطرٍ يدعو لإعادة النظر في البنية الاجتماعية والتربوية بأكملها.
لقد كشفت الجريمة أن العنف ليس فعلاً طارئًا، بل نتيجة حتمية لتراكماتٍ تربوية ونفسية وثقافية امتدت من البيت إلى المدرسة، ومن الشاشة إلى الشارع.
من هنا، لا بدّ من الانتقال من ردّ الفعل الآنيّ إلى خطةٍ استراتيجية وقائية، تُبنى على أسس علمية وقيمية واضحة، تشارك فيها جميع الأطراف.
أولًا: ملامح الرؤية الوطنية المنشودة
————————
الوقاية بدل العقوبة
لا يكفي أن نُعاقب بعد وقوع العنف، بل يجب أن نُنشئ بيئة تمنع حدوثه أصلًا، عبر منظومة وعيٍ وتربيةٍ ومتابعةٍ مبكرة.
شمولية المعالجة
العنف المدرسي ليس قضية تعليمية فحسب، بل قضية أسرة وثقافة وإعلام وعدالة. لذا يجب أن تُبنى الرؤية على تعاونٍ متعدد القطاعات.
مركزية الإنسان في المنظومة التربوية
الهدف الأسمى ليس تخريج متفوقين في الامتحان، بل مواطنين أسوياء يمتلكون وعيًا أخلاقيًا وانفعاليًا يحصّنهم من الانزلاق نحو العدوانية.
ثانيًا: المحاور الخمسة للمشروع الوطني
————————
1. المحور الأسري: البيت بوصفه خط الدفاع الأول
إنشاء برامج توعية للأهل حول أساليب التربية الحديثة، والذكاء العاطفي، والتعامل مع المراهقة.
إدراج “مدارس الأهل” ضمن برامج وزارات التربية والشؤون الاجتماعية لتثقيف الأسر.
فرض تواصل دوري بين المدرسة والأسرة، لا عبر العقوبات بل عبر المتابعة الوقائية والدعم.
دعم الأسر المفككة نفسيًا واجتماعيًا عبر مراكز مختصة تقدم الإرشاد الأسري.
2. المحور المدرسي: المدرسة كحاضنة تربوية
إدماج التربية الوجدانية والسلوكية في المناهج الدراسية كمادةٍ تطبيقية لا نظرية.
إنشاء وحدات دعم نفسي وتربوي دائمة في كل مدرسة، تضم اختصاصيين مؤهلين.
تقليص مركزية الامتحانات لصالح التقييم المستمر القائم على القيم والسلوك.
تدريب المعلّمين على إدارة الغضب، وفنّ التواصل، واكتشاف السلوكيات الخطرة مبكرًا.
تطوير ميثاق سلوك مدرسي وطني، قائم على الاحترام والتسامح، يوقّعه الجميع: طلابًا، ومعلمين، وأولياء أمور.
3. المحور الإعلامي: من التطبيع إلى التنوير
وضع مدوّنة سلوك إعلامي وطني تمنع الترويج لمشاهد العنف أو تمجيد الجريمة.
تخصيص برامج تثقيفية للأطفال والمراهقين حول إدارة الغضب والتعامل مع الخلاف.
تشجيع الإنتاج الدرامي والرقمي الذي يُبرز قيم التسامح والتعايش بدل الانتقام.
إدخال “التربية الإعلامية” إلى المناهج لتدريب الجيل على التفكير النقدي في ما يراه ويستهلكه.
4. المحور المجتمعي: المجتمع الراشد والمسؤول
إطلاق حملات وطنية توعوية بعنوان مثل: “اختر الحياة” أو “كلمة طيبة… حياة آمنة”.
تفعيل دور المؤسسات الدينية والثقافية في نشر خطابٍ وسطيّ يحارب التطرف والعنف.
إشراك الجمعيات الشبابية في مبادرات “السلام المدرسي” والعمل التطوعي الجماعي.
تشجيع مبادرات المصالحة المجتمعية السريعة بعد كل حادثة عنف، لتفادي انتقال الصدمة للأجيال.
5. المحور التشريعي والإداري: الدولة كراعيةٍ للمنظومة
سنّ قوانين واضحة تُجرّم العنف المدرسي بكل أشكاله، وتحدّد مسؤوليات المؤسسات التربوية.
إنشاء مرصد وطني للعنف المدرسي والشبابي يجمع البيانات ويقترح السياسات الوقائية.
ربط التمويل المدرسي بمدى الالتزام بالسلوك التربوي الإيجابي، وليس فقط بالتحصيل الأكاديمي.
تطوير وحدات مشتركة بين وزارات (التربية – الإعلام – الداخلية – الصحة – التنمية الاجتماعية) لتنسيق الجهود الوقائية.
ثالثًا: من الفعل إلى الوعي – بناء الإنسان قبل النظام
إنّ أخطر ما نفعله حين تقع المأساة هو أن نحصرها في إطار “حادثة”.
لكنّ الحادثة هي عرض لمرضٍ في المنظومة الأخلاقية والاجتماعية، ولن يشفى الجسد ما لم يُعالج العقل والقلب معًا.
الوعي التربوي يجب أن يصبح ثقافة عامة، تُدرّس في الجامعات، وتُبثّ في الإعلام، وتُمارس في البيوت والمدارس.
رابعًا: نحو ثقافة حياة جديدة
الوقاية من العنف ليست مشروعًا مؤقتًا، بل رؤية حضارية طويلة المدى.

حين يتربى الطفل على احترام الاختلاف، ويتعلّم أن الحوار أقوى من السلاح، وأن الكلمة يمكن أن تُنقذ لا أن تقتل، نكون قد بدأنا إعادة بناء المجتمع من أساسه.
خامسًا: التوصيات الختامية
تبنّي إستراتيجية وطنية موحّدة للوقاية من العنف المدرسي تُشرف عليها لجنة عليا.
إدماج مادة “التربية على السلام” في المراحل الدراسية كافة.
تفعيل دور المعلّم كمربٍّ نفسيّ واجتماعيّ لا ناقلٍ للمعلومات فقط.
تمكين الإعلام من أداء دوره التوعوي ضمن معايير أخلاقية واضحة.
إنشاء مراكز بحثية تُتابع الظاهرة علميًا وتقترح الحلول المستدامة.
تشجيع الأبحاث الجامعية والمبادرات الشبابية حول السلم المجتمعي.
تعزيز دور الفنّ والثقافة كوسيطٍ للتعبير الآمن عن الانفعالات.
خاتمة: نحو إنسانٍ جديد يولد من رحم الألم
إنّ مقتل شابٍّ في مدرسة يجب ألا يمرّ كخبرٍ عابر، بل كصرخةٍ تدعو إلى ثورة قيمية هادئة تعيد الاعتبار للتربية بوصفها صميم الوجود الإنساني.
فما لم نُربّ قلوب أبنائنا على المحبة، سيُعيد التاريخ إنتاج الألم بأشكالٍ مختلفة.
المدرسة والأسرة والمجتمع والإعلام والدولة… كلّهم شركاء في الجريمة إذا صمتوا، وشركاء في الإنقاذ إذا وعَوا وتحرّكوا.
إننا لا نبحث عن الجناة فقط، بل عن الجذور.
ولا ننتظر العدالة فحسب، بل نزرع الرحمة كي لا نحتاجها غدًا
دمتم. بأمن وأمان.
  • الدكتورة فاطمة ابوواصل أغبارية