كنوز نت -  رياض عبدالواحد | ناقد | عراقي


قراءة وتأويل في قصيدة (عَيْني عليكِ ترسُمُني..!!) للشاعر حسين السيّاب: بين فتحة الوجود اتساع العدم 
 رياض عبدالواحد | ناقد | عراقي 




  • المقدّمة:
ينتمي النصّ الشعري «عَيْني عليكِ ترسُمُني..!!» إلى خطابٍ ما بعد حداثيّ تتقاطع فيه التجربة الفرديّة مع الوعي الجمعيّ، إذ يستحضر الشاعر إرث الحرب، وسيرة الذات المنقسمة، وانكسار اللغة أمام شهوة البقاء. في هذا النص تتشابك الأنساق النفسية والتاريخية واللغوية لتنتج فضاءً دلالياً متوترًا بين "العين" بوصفها أداة الرؤية والمعرفة، و"الأنثى" بوصفها مرآة الخلاص والهروب.
تسعى هذه القراءة إلى تفكيك البنى المتداخلة للنص عبر أربعة محاور تحليلية: البنية البنيوية التفكيكية، التداولية، النفسية، واللسانية/ الفونيمية، مع الاستناد إلى نصوص الشاعر نفسه لتبيّن التوتر بين العلامة والدلالة، وبين الذات والآخر.
تحليل النصيص (فونيمياً، دلالياً، ولسانياً).

  •  التحليل الفونيمي:
يتكوّن النصيص من إيقاع صوتي يشي بحالة من الاحتدام العاطفي والانفعال:
 "عَيْني عليكِ ترسُمُني..!!"
يخلق تكرار الأصوات الحلقية والعلوية (ع، ي، كِ) نغمة احتكاك بين الداخل والخارج، بين الرائي والمرئي، بينما يُحدثُ صوت المدّ في "عَيْني" امتدادًا زمنيًا يوحي بالاستغراق في المراقبة.
علامتا التعجّب والنقطتان تشكّلان تأزيمًا فونيميًا يحوّل الجملة الخبرية إلى نداء وجوديّ صاخب، وكأنّ الصوت الشعري يُعلن انكساره داخل اللغة نفسها.

  •  التحليل الدلالي:
يحمل النصيص بنيةً مزدوجة بين الرؤية والتشكيل. "العين" ليست أداة بصرية فقط، بل كيان هوويّ يرسم الذات "ترسُمُني" في علاقةٍ انعكاسية مع الآخر "عليكِ".
إنها رؤية تنبني على الفقد؛ فالمتكلم لا يرسم العالم، بل يُرسَم عبر نظرة الآخر. هذا الانقلاب الدلالي يؤسس لوضعية استلاب تُحيل إلى أزمة الهوية الناتجة عن الحرب والاغتراب.

  •  التحليل اللساني:
يبدأ النصيص بضمير المتكلّم "عيني" وينتهي بضمير المخاطب "عليكِ"، مرورًا بالفعل "ترسمني" الذي يجمع بينهما بعلاقة جدلية.
البنية النحوية تحقّق ما يسميه رومان ياكبسون "محور الاستبدال" داخل "محور التركيب"، إذ يتبادل الفاعل والمفعول أدوارهما في انزياح نحوي يحوّل الفعل الشعري إلى حدث لغوي قائم على التبادل لا التوكيد.

  •  البنية البنيوية التفكيكية للنص:
يؤسس الشاعر نصّه على تضادّاتٍ محورية: (الحرب/الشعر، الرؤية/العمى، الوجود/ العدم، الداخل/ الخارج).
يقول الشاعر:
 "أراقبُ العالمَ من فتحةٍ ضيّقةٍ
تكفي لنصفِ عينٍ
ونصفِ قلب"
هنا تتجسّد البنية الانقسامية للذات: الذات التي ترى بنصف عين وتحبّ بنصف قلب هي ذات مخلّعة، لا تملك أدوات الإدراك كاملة. في القراءة التفكيكية، هذا "النصف" لا يشير إلى نقصان فحسب، بل إلى فائض معنى؛ إذ لا وجود لـ "الكامل" إلا بوصفه وهمًا لغويًا. فكل رؤية ناقصة بطبيعتها لأنّ اللغة ــ كما يرى دريدا ــ تحمل أثر غيابها في حضورها.
أما حين يقول:
 "أنا من جيلٍ سحقتهُ غوايةُ الحرب
والوطن المنسيّ على حافّةِ رصاصة!

فإن البنية السردية تنتقل من الأنا الفردية إلى الضمير الجمعيّ "جيلٍ"، ما يوسّع أفق التفكيك من التجربة الذاتية إلى التجربة التاريخية.
المفارقة أن الوطن، الذي يُفترض أن يكون فضاء الأمان، يتحوّل إلى هاويةٍ نحويةٍ في النص "على حافّةِ رصاصة"، أي أنّ الوطن لم يعد مكانًا، بل عتبة موتٍ لغويّ.

  • التداولية وتبادل المقامات الخطابية:
من منظور التداولية، يتحرك النص بين مقامين لغويين:
1–مقام الإخبار عن الذات "أراقب العالم..."
2–مقام النداء/الخطاب الموجّه "عيني عليكِ..."
هذا التبدّل في المقام يشير إلى تعدّد الأصوات داخل الخطاب الشعري.
فالقصيدة ليست أحادية الصوت، بل حواريّة "وفقاً لباختين"، تتداخل فيها الأصوات الداخلية "الذات المتكلمة" مع أصوات الحرب والموت والحبّ.
وتصبح "الأنثى" هنا مخاطبًا تداوليًا يمثل الآخر الذي يمنح اللغة إمكان التواصل بعد الخراب.

كما أنّ فعل "أهربُ إليكِ" في الختام هو فعل تداولي إنشائي يحمل قيمة تعاقدية: فالهرب نحوها لا يكتمل إلا بالافتراض الضمني أنّها موجودة، تسمع، وتستجيب.
إنها ليست متلقية سلبية، بل فاعل تداولي يشارك في إنتاج الدلالة.

  • القراءة النفسية (التحليل الفرويدي–الوجودي):
في ضوء التحليل النفسي، تنكشف القصيدة كرحلة من اللاشعور الجمعي إلى التماهي العاطفي.
 "بظلِّ الموتِ مشينا
بظلِّ الخوفِ هربنا
إنّ التكرار الإيقاعي لكلمة "بظلّ" يُظهر حالة من الإسقاط النفسي، فالشاعر يعيش في ظلال رمزية للموت والخوف لا يمكن تجاوزها إلا بالكتابة.
الكتابة، بحسب فرويد، هي تعويض عن الفقد، آلية دفاعية ضدّ القلق، لذلك يقول:
 "لأتخلّصَ من أشباحي سلكتُ دربَ الشعر"
إنه اعتراف صريح بأن الشعر هو التحليل النفسي للذات، وأنّ الكتابة تمثّل بديلاً عن العلاج.
في الختام، يتحوّل "الآخر الأنثوي" إلى أُمّ رمزية، تمنح الذات إمكانية العودة إلى رحم الأمان المفقود، ما يجعل القصيدة صرخة ميلاد جديدة في وجه العدم.

  •  البنية اللغوية والإيقاع الداخلي:
يتخلّى الشاعر عن الوزن التقليدي ليعتمد إيقاعًا نفسياً متولداً من التوازي التركيبي:
 "بظلِّ الموتِ مشينا/ بظلِّ الخوفِ هربنا/ بظلِّ الشعرِ المدسوسِ..."
هذا التوازي الصوتي يعيد إنتاج إيقاع الحرب الداخلي؛ إيقاع الرتابة والنجاة المؤجّلة.
كما أنّ الأفعال الماضية "مشينا، هربنا، أكلتنا". تعكس زمنًا منغلقًا على ذاته، يقابله في النهاية فعل مضارع مفتوح "أهرب إليكِ" يوحي بولادة زمنٍ جديدٍ للذات الشاعرة.

  • الخاتمة:
إن قصيدة «عَيْني عليكِ ترسُمُني..!!» ليست مجرد بوح ذاتيّ، بل فضاء بنيويّ متعدّد الأصوات تتقاطع فيه الحرب بالحبّ، واللغة بالخراب، والذات بالآخر.
تتحوّل العين إلى رمزٍ للوعي الممزّق بين الرؤية والرسم، فيما يغدو الهرب نحو "الأنثى" هربًا نحو الحياة، نحو بقايا الإنسانية الممكنة بعد الفناء.
من منظور تفكيكي، لا يقدّم السيّاب إجابة بل يخلخل الأسئلة، ليؤكّد أن الكتابة فعل نجاة من العدم لا بالمعنى الجمالي فحسب، بل بالمعنى الوجوديّ أيضاً.

عَيْني عليكِ ترسُمُني..!!

أمكنةٌ طائشةٌ
تكبرُ معي
أراقبُ العالمَ من فتحةِ ضيّقةٍ
تكفي لنصفِ عينٍ
ونصفِ قلب
لأرى الدنيا كما أُريد...
أنا من جيلٍ سحقتهُ غوايةُ الحرب
والوطن المنسيّ على حافّةِ رصاصة!
بظلِّ الموتِ مشينا
بظلِّ الخوفِ هربنا
بظلِّ الشعرِ المدسوسِ في حقائبِ الجنود، أكلتنا الأيام...
بحرفةِ فلّاحٍ جنوبيّ،
أحرثُ اللغةَ
لتنمو قصائدي ناضجةً حدَّ اللعنة
بلا رنّةٍ للقواقي في مجرى الروح...
لم أرَ أفكاري تنتظرُ على مصطبةِ الوجع
أو تلوحُ لي كنجمةٍ في مقبرةٍ..
لأتخلّصَ من أشباحي سلكتُ دربَ الشعر
في رحلةِ العدمِ لم أفهم شيئاً
سوى انّكِ في كلِّ مكانٍ
وأنا أهربُ إليكِ…