كنوز نت - رانية مرجية

حين تنصت اللغة إلى الله
قراءة رانية مرجية في رواية إكسير الأسرار
????️ المدخل: الكتابة كنجاة من الصمت
بعض النصوص تُقرأ لتُعجب،
وأخرى لتُفكَّك،
لكن إكسير الأسرار لا تُقرأ بل تُختبَر،
كما يُختبر الضوء حين يمرّ عبر القلب المغلق.
سيما صيرفي لا تكتب من عقلها، بل من الجرح.
تكتب كما تتنفس النار حين تكتشف رمادها.
في لغتها لا يوجد حبر، بل نَفَس،
ولا توجد حكاية بقدر ما يوجد كشفٌ يتسع للروح كلّها.
إنها لا تروي، بل تطهّر.
وكل جملة في روايتها وميضُ معرفةٍ يذكّرنا
أن الكتابة ليست حرفة، بل نجاة من العدم.
???? الذاكرة التي تلد الزمن
حين مات الأب أمام عيني نورة، لم يمت رجل، بل توقّف الزمن.
سقط العالم من حولها، وبدأت دورة جديدة في داخلها.
منذ تلك اللحظة، لم تعد الذاكرة مكانًا للماضي،
بل أصبحت وطنًا للحاضر الذي لا ينقضي.
كل فصل في الرواية لا يتبع ما قبله،
بل ينعكس عليه كما تنعكس الموجة على أصلها.
الزمن عند صيرفي لا يسير، بل يدور،
وكأن كل مشهد وعيٌ جديدٌ لنفس الجرح القديم.
نورة لا تكبر بالسن، بل تتعمّق بالوجع.
وكل ذكرى ليست استرجاعًا، بل ميلادًا آخر للحقيقة من رحم الألم.
???? من الوجع إلى الكشف
الفقد في إكسير الأسرار ليس نهاية، بل ولادة ثانية للوعي.
نورة لا تبحث عن أبيها، بل عن النظام الذي انهار بموته.
وفي صمتها الطويل تتعلّم أن البكاء لغة،
وأن الألم إذا لم يُفهم، ظلّ قيدًا،
أما إذا فُهم، صار بصيرة.
الفقد هنا ليس عتمة، بل مصباح داخلي.
ومع كل وجعٍ جديد، يضيق العالم ويكبر القلب،
حتى تصل إلى يقينها الأخير:
أن الشفاء لا يعني أن ننسى، بل أن نفهم.
⚖️ العدالة كقياسٍ للروح
اختارت نورة دراسة “المساحة”،
لكنها كانت تقيس شيئًا آخر: غياب العدل.
تحاول أن ترسم بالمسطرة حدًّا للألم،
أن تحسب الغياب،
أن تجد معادلة تُنصف الروح في عالمٍ مختلّ.
لكنها تكتشف أن ما يُقاس بالأدوات لا يُقاس بالوجع.
فالهندسة تتحوّل إلى صلاة،
والعقل إلى طقسٍ من طقوس الإيمان.
كل رقمٍ تكتبه في دفاترها يصبح حوارًا مع الله،
وكل معادلةٍ محاولة لترميم التوازن بين الأرض والسماء.
العدالة هنا ليست قانونًا، بل سلام داخلي
بين ما أُخذ منا وما أُعطي لنا.
???? الحب كمعراجٍ للوعي
في الفصول التي تجمع ثريا وعاصم،
يدخل النص مساحة أخرى من التأمل.
الحب هنا ليس عاطفة، بل مختبر للروح.
هي تواجه وجهها في مرآة الوجع،
وهو يهرب من صورته حتى التلاشي.
لكن الرواية لا تُدين أحدًا،
بل تكشف هشاشتنا جميعًا أمام ما نحبّ.
الحبّ في إكسير الأسرار ليس وعدًا بالفرح،
بل امتحانٌ للصدق في حضرة الخسارة.
إنه الطريق الذي من خلاله نفهم أنفسنا،
فمن لا يُحبّ لا يُعرف،
ومن لا يُوجَع لا يُطهَّر.
????️ اللغة التي تضيء دون أن تشرح
لغة صيرفي لا تكتب، بل تنصت.
ليست وسيلة نقلٍ للمعنى،
بل كائنٌ يتنفّس الضوء.
“كل نقطة التقاء بين خطين هي احتمال نجاة.”
في هذه الجملة وحدها يختصر النص فلسفته:
الرياضيات تتحول إلى صلاة،
والعقل إلى طريق نحو الفهم،
والجمال إلى معرفة تُرى بالقلب لا بالعين.
لغة إكسير الأسرار لغةٌ تعرف حدودها،
لكنها تلامس ما وراءها.
تُضيء ثم تتركك في ظلمةٍ مقدّسة،
كي ترى بنفسك ما لم يُكتب.
???? بين الإكسير والسرّ
الإكسير هو الفهم، والسرّ هو الغموض.
ومن بينهما يعيش الإنسان، ممدودًا بين الوضوح والدهشة.
كل كشفٍ في الرواية يُقابله ستْر،
وكل لحظة وعي تُعيدك إلى حافة الصمت.
هكذا يتجلّى المعنى الصوفي في النص:
أن الله لا يُدرك إلا بمقدار ما يُخفى،
وأن الحقيقة لا تُرى كاملة، بل تُلمح من بعيد.
صيرفي تُذكّرنا أن المعرفة التي لا تواضع فيها، تحترق.
وأن الإكسير الحقيقي ليس في الإجابة،
بل في السكينة التي تلي السؤال.
???? المرأة كوعيٍ كونيّ
المرأة في الرواية ليست جسدًا، بل مبدأ الخلق.
نورة هي الفكر، وثريا هي القلب،
ومن اتحادهما يولد التوازن بين العقل والعاطفة، بين النور والظلّ.
المرأة عند صيرفي ليست ضدّ أحد،
بل ضدّ العدم.
هي التي تحمل سرّ الحياة حين يضيع المعنى،
وتُعيد ترتيب الكون حين يختلّ.

هي المرآة الأولى التي نظر الله فيها فرأى النور.
???? الشفاء كفهمٍ للعدم
في النهاية، لا تنسى نورة موت أبيها،
لكنها تتصالح معه كما يتصالح الضوء مع ظله.
تفهم أن العدالة ليست في الخارج،
بل في توازنٍ خفيٍّ بين الأخذ والعطاء.
تكتشف أن الغياب لا يُلغى،
بل يُعاد تأويله ليصبح شكلًا آخر من الحضور.
“الإكسير لا يُكتشف، بل يُستيقظ فينا حين نكفّ عن السؤال.”
في هذا السطر تنتهي الرواية وتبدأ المعرفة.
الشفاء ليس نسيان الوجع،
بل رؤيته من مكانٍ أرحب،
حيث لا يكون الألم عدوًّا، بل معلمًا صامتًا.
???? الخاتمة – حين تصير الرواية صلاة
إكسير الأسرار ليست رواية عن امرأة،
بل عن الإنسان حين يتقاطع فيه الجسد والروح،
الزمن والذاكرة، العلم والإيمان.
سيما صيرفي لا تكتب حكاية،
بل تفتح معبرًا نحو الحقيقة عبر اللغة.
تجعل من الأدب مختبرًا للنور،
ومن الكلمة دعاءً متخفّيًا في بنية الجمال.
كلّ من يقرأ الرواية سيجد نفسه واقفًا في منطقةٍ بين الوعي والدهشة،
يتأمل، يصمت، وربما يبكي.
لأن بعض الروايات لا تُقرأ لتُفهم،
بل لتذكّرك بأنك ما زلت حيًا بما يكفي لتشعر بالوجع.
???? عن الإصدار والناشر
صدرت رواية إكسير الأسرار عن دار سهيل عيساوي للطباعة والنشر – كفر مندا، الطبعة الأولى 2025.
دارٌ تُعنى بإصدار كافة أنواع الأدب والفكر، وتمنح كافة الكتّاب فضاءً رحبًا للتعبير عن ذواتهم وإبداعهم، مؤمنةً بأن الكتابة ليست سلعة، بل فعل نورٍ ومعرفة.
???? كلمة في حق الكاتب والناشر سهيل العيساوي
الكاتب والأديب سهيل العيساوي ليس مجرد ناشر،
بل هو مؤمن بأن الكلمة ضوء، وبأن النشر رسالة لا تجارة.
يمنح النصوص التي تمسّ الروح حضنًا من الاحترام،
ويحتضن الكتّاب كما يحتضن المزارع بذرته الأولى،
يصغي للنصوص بضمير المبدع لا بميزان السوق.
لقد كان دعمه لهذا العمل الأدبي امتدادًا لمسيرته في خدمة الأدب الفلسطيني والعربي،
وتأكيدًا على أن الكتابة، في زمن الصخب، ما زالت قادرة على أن تكون صلاةً تُنصت فيها اللغة إلى الله.