كنوز نت - عماد خالد رحمة – برلين



من موت المثقف إلى هيمنة التكنوقراط: أزمة المعنى في زمن النيوليبرالية
عماد خالد رحمة – برلين


منذ أن أعلن جان بول سارتر أن “وظيفة المثقف هي قول الحقيقة في وجه السلطة”، كان المثقف ينهض بوظيفة مزدوجة: إنتاج المعرفة النقدية، وصيانة الضمير الجمعي في مواجهة القمع والتضليل. لكن التاريخ المعاصر يبدو وكأنه أدار ظهره لهذه الصورة الكلاسيكية، لتطفو على السطح نماذج جديدة: المثقف المقاول، المثقف الثرثار، المثقف التبشيري… وكلها تجليات لانكسار دور المثقف الحرّ أمام تحولات النيوليبرالية.
لقد كثر الحديث عن “نهايات” شتى: نهاية المثقف (إدوارد سعيد)، نهاية التاريخ (فرانسيس فوكوياما)، نهاية الأيديولوجيا (دانيال بيل). غير أن ما نعيشه اليوم ليس مجرد “موت” للمثقف، بل ولادة كائن اجتماعي جديد يحتكر إنتاج الأفكار والسياسات والمعارف: “التكنوقراط”. هذا الخبير الوظيفي، الذي يُستدعى لا لزعزعة النظام القائم، بل لترميمه بكفاءة تقنية وحياد مصطنع، أصبح النموذج المهيمن في مراكز القرار ومؤسسات الحكم والإدارة الدولية.
من المثقف الرسولي إلى الخبير الموظف:
يصف أنطونيو غرامشي المثقف العضوي بأنه المثقف المندمج في قضايا شعبه، الذي لا يكتفي بوصف الواقع بل يسعى لتغييره. في المقابل، تفرز النيوليبرالية مثقفاً تقنياً منزوع الانتماء، لا علاقة له بالصراع الاجتماعي أو الدفاع عن القيم، بل مهمته “تحسين الأداء” ضمن قواعد اللعبة القائمة. هذا الانزياح من المثقف الرسولي إلى “الخبير الموظف” يعكس ما سماه زيغمونت باومان بـ”الحداثة السائلة”: زوال الثبات القيمي، وذوبان الالتزام الأخلاقي في حسابات الجدوى والمصلحة.
الخبير هنا ليس معزولاً في برج عاجي، بل موظف في شبكة من المؤسسات المانحة، الشركات العابرة، والبنوك الدولية، يبيع خبرته كما تُباع أي سلعة في السوق. أما استقلاليته، فهي رفاهية مستحيلة، إذ أن تمويله ومجاله الحيوي محكومان بالسلطة الاقتصادية والسياسية التي يخدمها.
النيوليبرالية وتدجين الوعي:
تشرح نانسي فريزر كيف تحوّل النظام النيوليبرالي إلى ماكينة لإنتاج “وعي مُدار”؛ أي وعي يظن نفسه حراً، لكنه في الواقع مؤطر بمنطق السوق، بحيث يصبح التفكير خارج هذا الإطار فعلاً شبه مستحيل. في ظل هذه البنية، جرى تحويل المثقف من “صوت للحق” إلى “مستشار تحسين الصورة”، ومن ناقد اجتماعي إلى مُنقّح نصوص العلاقات العامة.
هذه النيوليبرالية لم تكتفِ بتقليص دور المثقف، بل أعادت صياغة المجال العام نفسه ليصبح ميداناً للمؤثرين، خبراء البيانات، وصناع المحتوى الممولين، بينما أُقصي المثقف النقدي إلى الهوامش.
أزمة المعنى: حين يصبح الكلام بديلاً عن الفعل:
في هذا السياق، يولد نموذج “المثقف الثرثار” الذي تحدث عنه بيير بورديو: إنتاج مستمر للكلام والنصوص والندوات، لكن بلا أثر في ميزان القوة الفعلي. هذا الكلام قد يكون ثورياً في الخطاب، لكنه مسالم في الفعل، لأن هدفه الحقيقي هو الحفاظ على موقع في السوق الرمزية، لا تغيير الواقع.

والأخطر أن المثقف، حين يتقمص دور “المقاول”، يبدأ بتكييف أفكاره لتناسب طلب السوق: التقارير المدفوعة، الأبحاث الموجهة، المشاريع الممولة… إلى أن يصبح مجرد ذراع فكرية للسلطة الاقتصادية.
التكنوقراط كاحتكار جديد للسلطة:
المعضلة الراهنة ليست فقط غياب المثقف النقدي، بل هيمنة طبقة تكنوقراطية تحتكر المعرفة التقنية والقدرة على تقديم المشورة، بينما تخضع هذه المشورة سراً أو علناً لمصالح الممولين وأصحاب النفوذ. ميشيل فوكو كان قد أشار إلى أن “المعرفة سلطة”، لكننا اليوم أمام سلطة هي نفسها محتكرة من قبل نخبة ضيقة تحدد ما يجب أن يُعرف، وكيف يُعرف، ولمصلحة من.
هذا الاحتكار يخلق شكلاً جديداً من الاستبداد: استبداد الخبرة، حيث يُستبعد الجمهور من اتخاذ القرار بحجة أنه “لا يملك المعرفة الكافية”، بينما الحقيقة أن القرارات ليست محايدة، بل مشبعة بانحيازات المصالح.
نحو إعادة تعريف المثقف
ربما آن الأوان لنعيد تعريف المثقف في زمن ما بعد النيوليبرالية. ليس كمبشر أو واعظ، ولا كخبير في خدمة السلطة، بل كفاعل نقدي مستقل قادر على الربط بين المعرفة والعدالة، وعلى ممارسة ما يسميه جاك دريدا بـ”المسؤولية اللانهائية”: أي التزام دائم بالسؤال عن أثر الكلمة في مصائر البشر.
إن عودة المثقف الحقيقي تمر عبر استعادة المجال العام من هيمنة السوق، وكسر احتكار المعرفة، وربط الفكر بالفعل السياسي والاجتماعي. بدون ذلك، سنبقى نتأرجح بين صورة المثقف الميت وصورة الخبير الموظف، فيما تتسع الفجوة بين الكلام والتاريخ.