كنوز نت - بقلم: رانية مرجية


فن الرفض… حين يكون قول لا أعلى درجات الحرية"
بقلم: رانية مرجية
في زمن تتداخل فيه الضوضاء مع الحقيقة، ويصبح فيه البقاء في أي مساحة مرهونًا بقدرتك على المساومة على ذاتك، يكتسب قول "لا" بعدًا فلسفيًا ووجدانيًا يتجاوز حدود الموقف العابر. إن رفضك البقاء في مكان لا يحترم فكرك ولا يصون إنسانيتك ليس مجرد انسحاب، بل هو فعل وجودي يرسّخ هويتك ويؤكد أنك لست كائنًا يتشكل وفق مقاييس الآخرين، بل ذات حرة واعية تعرف قيمتها.
الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط اعتبر أن الكرامة ليست شيئًا يُمنح أو يُسلب، بل هي قيمة جوهرية في الإنسان، قائمة على احترامه لذاته أولًا. حين تقول "لا"، فأنت تمارس هذا الاحترام بأسمى أشكاله، وتعلن أن كينونتك لا تقبل المساومة. وهذا الموقف، وإن بدا للبعض خسارة آنية، فإنه في جوهره انتصار طويل الأمد، لأنه يحررك من العبودية الخفية التي يفرضها الخوف من الفقد أو الرفض الاجتماعي.
لقد اختبرت بنفسي أن البقاء في بيئة لا تُنصت لصوتك يشبه الغوص في ماء راكد؛ يبدو ساكنًا وآمنًا، لكنه يخنقك ببطء، ويقيد حركتك حتى تنسى أنك خُلقت لتسبح في محيط أوسع. الرحيل هنا ليس هروبًا، بل عبور نحو فضاء أرحب، نحو حياة تسمح لفكرك أن يتنفس وتمنح روحك فرصة للنمو.
يقول ألبير كامو: "الحرية ليست شيئًا يُعطى، بل شيء يُنتزع." وهذا الانتزاع يبدأ من لحظة الوعي بأنك أكبر من المكان الذي يحاول تقزيمك، وأعمق من السقف الذي يحاول خفض طموحك. إن قول "لا" في هذه اللحظة هو أرقى أشكال الشجاعة، لأنه يضعك على الطريق الذي يلتقي فيه الفعل بالمبدأ، والحلم بالكرامة.
كثيرون يظنون أن الصمت على الإهانة أو التضحية بالقيم هو "ذكاء اجتماعي"، لكن الحقيقة أن كل تنازل من هذا النوع يقتطع جزءًا من روحك، حتى تستيقظ يومًا فلا تجد في مرآتك سوى ظل باهت لما كنت عليه. أمّا من يحسن فن الرفض، فإنه يحافظ على ملامحه كاملة، ويظل يرى نفسه بوضوح مهما تغيّر العالم حوله.
إن قول "لا" ليس قطيعة مع الآخرين بقدر ما هو مصالحة مع الذات. هو إعلان أنك تختار أن تعيش حياة لها معنى، وأنك ترفض أن تتحول إلى ترس في آلة لا تهتم بمن أنت، بل بما تقدمه لها. وعندما تغلق بابًا خلفك، افعل ذلك بثبات وهدوء، لأن الأبواب التي تُفتح نحو النور لا تُرى إلا حين تُغلق تلك التي تحجب عنك الضوء.
خاتمة رمزية:
وحين تمشي خارج ذلك المكان، قد تظن للوهلة الأولى أنك خرجت وحيدًا، لكنك ستدرك سريعًا أن معك جيشًا من المعاني التي لم تكن تراها: كرامتك تمشي إلى جانبك، وحريتك تتنفس مع كل خطوة، وذاتك الحقيقية تبتسم لك من جديد. ستشعر أن الهواء صار أوسع، وأن الأفق، الذي كان جدارًا منخفضًا أمامك، صار سماء بلا حدود.
الرحيل من مكان لا يحترمك هو أشبه بخلع ثوب ضيق خنقك طويلًا، ثم الانطلاق عاريًا من كل الأقنعة نحو ضوءك الخاص. قد يكون الطريق مليئًا بالمنعطفات، لكن كل خطوة فيه تؤكد أنك اخترت أن تكون أنت، بلا رتوش ولا تنازلات.
وحين تنظر إلى الخلف، لن ترى أطلالًا تستحق الحنين، بل درسًا خالدًا: أن أجمل الانتصارات تبدأ بكلمة "لا"، وأن الإنسان، حين يحمي فكره وإنسانيته، يكتب أعظم فصول حريته.
--