كنوز نت - الحاج الدكتور إدريس جرادات

كلمة بمناسبة التقاعد  من ميدان العمل التربوي الى وهج الذاكرة
الحاج الدكتور إدريس جرادات
العمل والخدمة في السلك التربوي من 3-3-1997 ولغاية _ 7-8-2025م
مرشد تعليم جامع ومشرف تربية خاصة في مديرية تربية الخليل ومديرية تربية شمال الخليل
أيّها الاخوة و الرفاق والزملاء والأحبة في ميدان العمل و لنور...
يا من حملتم المشاعل في زمن العتمة، وكنتم للعلم قناديل، وللأرواح ظلالًا من دفء...
في حضرة الكلمة، ومع انحناءة العمر التي تشبه غروبًا دافئًا بعد نهارٍ حافل، أقف اليوم، لا لأودّعكم، بل لأعانق فيكم ذكرى عمرٍ مضيء، ومسيرةٍ كانت زاد الروح وعنوان الفخر.
      إلى الإدارة العامة للتربية الخاصة في الوزارة والى السادة مدراء المدارس والمديرات في المديرية ورؤساء الأقسام والموظفين الاداريين والمشرفين التربويين الذين كنتم الحصن الإداري والفني والاشرافي الأمين، والرؤية الحكيمة التي ترسي الخطى نحو مستقبل مزهر ، والى السادة المعلمين والمعلمات حملة الرسالة التربوية الانسانية وأولياء الأمور ذوي المسئولية المجتمعية.
       اليوم، أقف عند منعطفٍ تتقاطع فيه الذكرى والامتنان، حيث أودّع مسيرةً لم تكن وظيفةً عابرة، بل كانت رسالة حياة، ورحلة وعيٍ ومحبّة، ونبضًا في شريان الوطن.
      إلى أبنائي الطلبة، ذوي الهمم العالية، والإرادات الصلبة، الذين علمونا أن العجز لا يقف في الجسد، بل في اليأس، وأن الموهبة لا تحتاج إذناً لتشرق، بل قلبًا مؤمنًا بها...
     وها انا اليوم على عتبة التقاعد من العمل الوظيفي مشرف تربية خاصة - جئت لا لأنهي مسيرة، بل لأبدأ فصلاً جديدًا من الوفاء. فالعطاء لا يشيخ، والحب لا يتقاعد، والذكرى الطيبة لا يغلق بابها الزمن.
أغادر اليوم مكاني الوظيفي، ومكتبي الأنيق ، لكنني لا أغادر رسالتي، ولا تنطفئ في قلبي جذوة العطاء ،لقد كنتُ واحدا منكم، وها أنا أغادر ...
 ولكن قلبي باقٍ في كل زاوية من هذا الصرح التربوي الانساني في كل خطوة وفي كل مقعد، وفي كل ابتسامة، وفي كل لحظة صبر وانتصار...
        في هذا اليوم الذي أودّع فيه ميادين العمل، لا أحمل حقيبة أوراقي فقط... بل أحمل بين جنباتي سنينًا من الرفقة والأخوة والمحبة ومجالس من الضحك الصادق، والمواقف النبيلة، والصداقات التي صُنعت من قلب التعب والجهد والإنسانية.
  حيث عملتُ في ميدان التربية والتعليم...ذاك الميدان الذي لا يُغلق بجرس، ولا يُنسى بمغادرة، ولا يُطفئ وهجه تقاعد أو نهاية خدمة...
كنتُ مرشدا للتعليم الجامع ومشرفا في مجال التربية الخاصة، وكان هدفي الأول أن أزرع في الأرض الصلبة حلمًا، وفي النفوس المتعبة أملًا، وفي عيون ذوي الإعاقة إيمانًا لا ينكسر .
        تنقّلت بين المدارس كما تتنقّل النحلة بين الزهر، لا أبحث عن راحة، بل عن أثر.
صيفًا تحت شمسٍ لاهبة، وشتاءً تحت مطرٍ لم يمنعني من الوصول إلى طالب يحتاج دعمًا، أو معلّم يحتاج كلم اتنقل بسيارتي الخاصة دون طلب المواصلات واعتبرها صدقة لله وتعطلت مرارا وتكرارا وكنت أحملها بونش للميكانيكي للتصليح .
 مع زملائي وزميلاتي، تشاركنا سنواتٍ من التعب ، كنا شاهدين على مواهب أبهرتنا من خلف الصمت، وعلى عزائم حطّمت مفاهيم العجز، فآمنت أن الإعاقة ليست نهاية... بل بداية إدراك عظيم.
  بقلوبنا، كنا نكتب المنهاج الحقيقي... منهاج "الانسانية "، و"الاحترام"، و"الإيمان بالآخر"،
فلا تقييم أعلى من دمعة امتنان، ولا نجاح أسمى من طالبٍ يقول: "شكرًا لأنك آمنت بي".
       واليوم، أطوي الصفحة الأخيرة من كتاب العمل... لكنني أعلّقها على رفّ الذاكرة بكل فخر:
صفحة كُتب عليها: "هنا مرَّ معلمٌ. مرشد ، مشرف .. لم يُدرّس فقط، بل غيّر الاتجاهات، ولامس الأرواح. ,وترك بصمة في الثقافة الانسانية وبسمة على شفاه ذوي الهمم والارادة القوية.
شكرًا لكم جميعًا مدراء، ومعلمين، وطلبة ، أولياء أمور ، مؤسسات ومقدمي الخدمات والبرامج التوعوية لأنكم كننتم .الرفاق في التعب، والجهد والعمل ونسج الأمل والنبض في الرسالة، والضوء في آخر النفق.

 أما أنا، فأرحل جسدًا، لكن تبقى روحي معلّقة على جدران الفصول، وفي زوايا الممرات، ودرج الصفوف في المدارس صعودا ونزولا .
تهمس لكل من يأتي بعدي:
"اصنع فرقًا... لا ضجيجًا"
"كن قدوة... لا عنوانًا فقط"
"وتذكر دومًا أن التربية ليست حرفة بل مهنة مقدسة ... بل ميثاق شرف وعقد اجتماعي وتربوي وانساني وجسور محبة وعلاقة انسانية.
شكرًا لكم على كل لحظة صدق،على كل وقفة نبيلة، على كل مناسبة جمعتنا بفرح، على كل موقف إنساني نبيل،على كل دُعابة خففت تعبًا،بالرغم من الارهاق في بعض اللجان ،وشكرا لكل نظرة تقدير شعرتُ بها وإن لم تُقال.
ها أنا أتنحّى اليوم عن مقعدي، عن مكتبي ، لا عن رسالتي....
أغادر مكتبي ، لا محبتي لكم... أطوي صفحة الميدان، لكن صفحاتكم في قلبي باقية لا تُطوى.
واليوم، لا أقول وداعًا، بل أقول: إلى لقاءٍ آخر في محافل الحياة... حيث تبقى القلوب على عهدها، والذكرى على نبضها، والنية على صفائها.
      شكرًا لكم لأنكم كنتم الوطن حين ضاق الوطن،والاسرة والسند حين اشتد التعب، والنور حين تأخر الصباح. والبركة حين يتأخر الراتب ، شكرًا لكم لأنكم كنتم "الإنسان"... بكل ما في الكلمة من معنى.
مع تحيات الحاج الدكتور ادريس جرادات مشرف التربية الخاصة 7-8-2025م.