
كنوز نت - الشيخ محمود وتد
متاعٌ قليل
الشيخ محمود وتد
عضو حركة الدعوة والإصلاح
قال الله تعالى:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النساء: 77].
هي الدنيا… تُزهر فجأة، وتذبل فجأة، تضحك يومًا، وتبكي أعوامًا، تُعطي ظاهرًا وتسرق باطنًا.
متاعها قليل… محدود لا يدوم، مهما بدا وفيرًا أو مبهرًا.
إن المتأمل في حال الخلق يرى عجبًا:
يجتهد الناس ويكدحون، في تحصيل ما وصفه الله بأنه "قليل"، ويغفلون عن ما وصفه بأنه "خير"، عن الجنة، والآخرة، ورضوان الله تعالى.
وقد عبّر الإمام الحسن البصري – رحمه الله – عن هذه المفارقة بعبارة خالدة، حين سأله رجل وهو يقف على قبر:
يا إمام، لو عاد هذا الميت إلى الدنيا، ماذا تراه فاعلًا؟
فأجابه الحسن:
والله، لا أراه يتمنى قصرًا، ولا مالًا، ولا سلطانًا،
بل لعلّه يتمنى ركعتين يصليهما، أو دمعة توبة، أو استغفارًا يرفعه الله به.
ثم قال:
أما نحن، فقد أُعطينا ما يتمنى، ومع ذلك نُفرّط وننشغل، ونتهافت على متاع قليل… وكأننا لا نعلم.
فيا صاح، لا تكن من الذين خدعتهم الدنيا، فركضوا خلفها ونسوا أن النهاية قريبة.
تذكّر دائمًا أن الدنيا ليست لك، بل عليك.
وأن من سكن القبور اليوم، كانوا بالأمس يحلمون مثلك، ويخططون ويضحكون، ثم… طُويت صحائفهم، وسكنت أرواحهم.
فإن كنت تملك الآن وقتًا، وصحة، وعقلًا، فاعلم أن ذلك كله نعمة تُمكّنك من العمل، من التوبة، من الصلاح، من التغيير..
وهذا رجل جاء إلى علي بن أبي طالب قائلا:
لقد اشتريت دارًا " وأرجو أن تكتب لي عقد شرائها بيدك.
فنظر إليه فرأى الدنيا قد تربعت على عرش قلبه وملكت عليه أقطار نفسه،
( فأراد أن يذكره بالدار الباقية وأن الدنيا متاع قليل)
فكتب قائلاً بعد ما حمد الله وأثنى عليه:
أما بعد فقد اشترى ميت من ميت دارًا " في بلد المذنبين ، وسكة ( شارع ) الغافلين لها أربعة حدود:
الحد الأول ينتهي إلى الموت،
والثاني ينتهي إلى القبر،
والثالث ينتهي إلى الحساب،
والرابع ينتهي إما إلى الجنة وإما إلى النار.
فبكى الرجل بكاء مريرًا ثم قال:
أشهد الله إني قد تصدقت بداري هذه على أبناء السبيل.
فأنشد قصيدة عصماء:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت
أن السعادة فيها ترك ما فيها
ﻻ دار للمرء بعد الموت يسكنها
إﻻ التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه
وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
ﻻ تركنن إلى الدنيا وما فيها
فالموت ﻻ شك يفنينا ويفنيها
لكل نفس وإن كانت على وجل
من المنية آمال تقويها
المرء يبسطها والدهر يقبضها
والنفس تنشرها والموت يطويها
والنفس تعلم أني ﻻ أصادقها
ولست أرشد إﻻ حين أعصيها
وأعمل لدار جنان حين تقصدها
والجار أحمد والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها
والزعفران حشيش نابت فيها
أنهارها لبن محض ومن عسل
والخمر يجري رحيقا في مجاريها
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها
بركعة في ظلام الليل يحييها
وقال الشاعر:
تزود من التقوى فإنك لا تدري
إذا جنّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ
فكم من فتىً يُصبح ويُمسي ضاحكًا
وقد نُسجت أكفانه وهو لا يدري
وقيل أيضًا:
يا من يعانق دنيا لا بقاء لها
يمسي ويصبح في دنياه سفّارًا
هلا تركت لذي الدنيا معانقةً
حتى تعانق في الفردوس أبكارا
فاختر لنفسك الآن ...
بين متاع قليل لا يرضي،
ومتاع كثير لا يفنى.
﴿ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ﴾
23/07/2025 10:36 pm 36