.jpeg)
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
رصاصة في صدر الحنين"
بقلم: رانية مرجية
في الحيِّ الذي لا يعرف اسماً، حيث الأزقّة تضيق على الحكايات، وتتكئ البيوت المتعبة على بعضها كما تتكئ الجدّات على العكّازات، حدثت الجريمة.
لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، لكنها خلخلت أرواحًا بأكملها، وتركت فراغًا لا يسده حتى الصراخ.
اسمه رسمي.
شاب في السادسة والعشرين. لا يشبه اسمه بشيء. لا يعيش رسميًا، لا يحلم رسميًا، ولا حتى يموت رسميًا.
خرج من بطن الفقر كما يخرج النبت الشوكي من صخر قاسٍ. والد مدمن، وأم أمية تغسل الدرج في بنايات الأغنياء، وأخت صمّاء لا تجيد غير لغة العيون.
في السابعة ترك المدرسة، ليس لعدم حبّه للعلم، بل لأن الحقيبة كانت أثقل من طاقته، والجوع كان يُلقي بظلاله على دفاتره.
كبر رسمي في الشارع، وتربّى في زواريب الحارة على قوانين الغاب: "من لا يضرب يُضرب"، "ومن لا يسرق يجوع"، و"من لا يصرخ يختفي".
وتحوّلت روحه إلى قشرة سميكة تحمي هشاشته. لم يكن شريراً بطبعه، بل هشًا بطريقة فاضحة، ولكنه كان يلبس الغضب كدرع ضد الانكسار.
في الجهة الأخرى من القصة، يقف عماد.
شاب يشبه الحلم، هادئ، بسيط، تخرج من كلية الهندسة رغم كل عواصف الحياة. كان يقول دوماً إن التغيير يبدأ من الكلمة، من التعليم، من الجمال.
عرف رسمي منذ الطفولة، كانا يلهوان معاً تحت شجرة التوت في ساحة الحيّ، قبل أن يسلكا طريقين متعاكسين.
عماد حاول أكثر من مرة أن ينتشل رسمي من محيط الغضب والجهل، دعاه للانضمام لمركز شبابي، لورشة مسرح، لمحاضرة حول العنف.
لكن رسمي كان يضحك بمرارة، قائلاً: "أنا ما بانفعش، الحيط العالي ما بينقز عليه حدا زينا".
في تلك الليلة، كان الحيّ غارقًا في العتمة، إلا من صوت صراخ قادم من الزقاق الخلفي.
رسمي كان يصرخ، لا على أحد، بل في وجه الحياة.
والكل مرّ من جواره، كمن يمر على قطة مريضة في الطريق، يتأفف لكنه لا يفعل شيئًا.
ثم ظهر عماد.
تقدّم منه، كعادته، بمحبة. لم يصرخ، لم يهدد، فقط قال: "ارجع البيت يا رسمي... ما حدا ضدك".
لكن رسمي، الذي لم يعُد يعرف كيف يتلقى الحنان، ولا كيف يتعامل مع الطيبة، استلّ المسدس الذي اقتناه قبل أسبوعين من تاجر خردة، وأطلق النار.
رصاصة واحدة.
في صدر عماد، في صدر كل الحيّ، في صدر المحاولة الأخيرة لإنقاذ رسمي من رسمي.
الدماء لم تكن فقط على الأرض.
كانت على وجوه الناس، في أصوات الأمهات، في صمت الأب المكلوم، في عيون أخت رسمي الصمّاء، التي صرخت بوجه لا أحد، حتى اهتز الحيّ كلّه.
التحقيقات قالت إنها "جريمة قتل على خلفية شجار".
لكن الحقيقة أعمق بكثير.
هي جريمة على خلفية الفقر، الجهل، الهشاشة، التهميش، على خلفية غياب الدولة وغياب الأمل.
هي جريمة لم تُرتكب في لحظة، بل بُنيت عبر سنوات من التجاهل والإقصاء.
رسمي اليوم في السجن.
لا يتكلّم كثيرًا، يكتب على جدران الزنزانة كلمات مبعثرة:
"لو كان عندي دفتر..."
"لو كان عندي حضن..."
"لو حدا سمعني..."
أما عماد، فغادرنا، لكنّه ما زال حيًا في كل مبادرة شبابية، في كل درب مفتوح نحو المعرفة، في كل يدٍ تُمدّ لطفل جائع لا يطلب سوى أن يُمنح فرصة ليعيش دون أن يصير قاتلاً أو مقتولاً.
هذه ليست مجرد قصة،
هذه الحقيقة التي نحاول دفنها كل يوم في مقبرة النكران، بينما تنبت من رمادها أرواح مكسورة تنتظر، بلهفة، من يراها.
رانية مرجية
لأن الحبر أحيانًا أصدق من الرصاص.
22/07/2025 08:41 am 25