كنوز نت - بقلم رانية مرجية


قوس الرمل
بقلم رانية مرجية
في عمق الصحراء، حيث تختلط الرمال بالسماء في حضنٍ لا يفرّق بين الأزمنة، حيث لا صوت إلا همسات الرياح التي تمسح على روح الأرض، كان هناك قوسٌ من الرمل، يلوح كلوحةٍ ضبابية، تمد ذراعيها بين الأرض والسماء، مثل ابتسامةٍ ضائعة في التاريخ، لا يعرفها إلا من يملك قلبًا يستقبل وجع الوجود.
هناك، في حضن الصحراء، كانت ليلى تجلس، وحدها. لكن ليس كما يظن الآخرون. لم تكن وحيدة كما يبدو للعيون التي تعبر مسرعة، بل كانت تستمتع بصمتها الذي يملأ فضاءها بأعماقٍ لا تصل إليها الكلمات. كان قلبها يرقص على إيقاع الرياح، وأفكارها تتناثر على ذرات الرمل كما تتناثر آلام الماضي وتترك وراءها أثرًا لا يُمحى.
رغم السكون، كانت ليلى تحس بوجعٍ يتسرب إلى أعماقها، في كل هبّة ريح، في كل ذرة رمل تتناثر بعيدًا. كان قوس الرمل أمامها ليس مجرد مشهد، بل مرآة لروحها، انعكاسًا لذكرياتها التي تتبعثر ثم تعود لتكتمل مرةً أخرى. كانت ترى فيه حياة ضائعة بين حطام الزمن، وقصائد لم تكتب بعد، وأحلامًا لم تجرؤ على الطيران.
في كل مساء، كانت تفتح دفترها القديم، الذي امتلأ بأحرفها المكسورة، برسائل لم تُرسل، وأسرار لم تُكشف. وكل كلمة كانت تنساب مثل موجاتٍ هادئة في البحر. لكن الريح كانت تأتي، لتأخذ تلك الكلمات، تمسحها برفق، كما لو كانت تقول لها: "كل شيء يُمحى ليُصاغ من جديد. لا تخافي، فالفراغ الذي يشعر به قلبك هو بداية الإبداع، بداية الحلم."
في تلك اللحظات، كان قوس الرمل أمامها يتحول إلى أكثر من مجرد رسم على الأرض، كان يصبح رمزًا لحياةٍ عاشت بينها وبين نفسها، رحلة بين الفقد والعودة، بين الحزن والشفاء. كان القوس يتنفس معها، وتتنفس هي معه، في رقصةٍ صامتة، كأنهما يشتركان في سرٍّ واحد، سرّ الزمن الذي يذهب، ويعود، ويخلق أفقًا جديدًا من أجل أملٍ جديد.
ليلى لم تكن تحتاج إلى أن تجد الكلمات لتفسير ما كان في قلبها، فالقوس كان يكتب عنها أكثر مما تكتب هي عن نفسها. كان يروي قصة حبٍ مع الحياة، لا تبدأ ولا تنتهي، بل تستمر في كل لحظة، في كل قطرة رمل، في كل نسمة هواء، في كل سكونٍ وعاصفة.
وفي كل صباح جديد، حين تشهد الشمس أول خيوطها، كانت ليلى ترى في القوس بداية جديدة، صفحة لم تُفتح بعد، يومًا ينتظر أن يُكتَب فيه. وكلما اقتربت من قوس الرمل، شعرت أنها لا تقترب من المكان، بل تقترب من نفسها، من قلبٍ تملؤه الأشواق، ومن روحٍ تبحث عن وطنٍ داخل هذا العالم الواسع.
القوس، كما كان في نظرها، لم يكن مجرد صورة للحظة عابرة، بل كان مرفأ لرحلة طويلة في ذاتها، نقطة انطلاق لشفاءٍ لا يُرى إلا في الصمت، وفي اللقاء مع الذات المكسورة التي تعود لتبني نفسها، قطعةً قطعة. كانت تعرف أن الوجع يظل دائمًا، لكنّه يصبح جزءًا من جمال الروح عندما تتعلم كيف تقبله وتمنحه مساحةً في القلب.
ومع كل صباح، كانت ليلى تبتسم للقوس، تشكره لأنه شهد على رحلةٍ لم تنتهِ، ورغم كل الرياح التي كانت تذهب بالألم بعيدًا، فإن في قلبها كان هنالك حبٌّ لا يموت، حُبٌّ للحياة التي تدور حولها بلا توقف، وحبٌّ لذاتٍ عادت لتجد مكانها في هذا الكون اللامتناهي.