
كنوز نت - بقلم: رانية مرجية
قراءةفي قصيدة "إليكم يا بني وطني" للشاعر تركي عامر
بقلم: رانية مرجية
في قصيدته "إليكم يا بني وطني"، يبدع الشاعر تركي عامر في تقديم صورة وطنية مليئة بالوجدانية والتحدي، تحتضن صراعًا داخليًا وخارجيًا يتناغم مع الواقع السياسي الذي يعيشه الوطن. قصيدته هذه، المنسوجة بحروف القلب، ليست مجرد كلمات أدبية، بل هي لحن شعري يصرخ بالوجع والأمل معًا. هي دعوة للصحوة، وتنبيه للأجيال القادمة بأن القوافل التي تسير في هذا الطريق لا ينبغي أن تتوقف، وأنها تحتاج إلى كل قلب ينبض بحب الوطن.
1. الأسلوب الأدبي:
الشاعر تركي عامر لا يقتصر في هذه القصيدة على السرد البسيط، بل يتنقل في صور شعرية ومعانٍ عميقة تؤثر في النفس. يفتح النص بحوار مباشر مع أبناء وطنه، مُعلنًا حالة من التمرد الأدبي والوجداني ضد الظلم. في قوله "إليكم يا بني وطني"، يشد الشاعر انتباه القارئ ويجعله جزءًا من الصورة التي يرسمها، وكأن كل كلمة تُنبِّئ بنبض قلب يندفع من أعماق الأرض.
الألفاظ التي يختارها الشاعر تتناغم مع الحالة النفسية لشعبٍ يكابد الألم، ثم يحاول الوصول إلى الأمل. تتعدد الأساليب البلاغية، من الاستعارة والتشبيه والتكرار، لتوظف الصورة الشعرية في خدمة الغاية السياسية والوجدانية. جملة مثل "ضَمِيرُ الحُرِّ يَعْرِفُ مَنْ تَعَدَّى" تحمل في طياتها دلالة عميقة، تشير إلى أن الضمير الوطني لا ينسى أو يتغاضى عن الظلم والاعتداء.
2. البُعد السياسي:
القصيدة تتسلسل من حيث الأسلوب، بدءًا من التنديد بالظلم وصولًا إلى التوجه صوب النضال والتحدي. الشاعر ينتقد، من خلال الجملة "فَتِيلُ الحَرْبِ يَعْرِفُ مَنْ تَصَدَّى"، كل أولئك الذين يظنون أن الحروب تُحسم بالمال والسلطة، بينما في الحقيقة تكمن البطولة في الوعي الوطني والاستعداد للتضحية. الحرب في القصيدة ليست مجرد صراع مادي، بل هي صراعٌ معنوي ونفسي، تتجلى فيه فكرة المقاومة الشعبية في مواجهة الطغيان.
وفي إشارة واضحة إلى أزمة الوحدة العربية والصراعات الداخلية، يأتي الشاعر في "نَرْفُضُ أَيَّ تَقْسِيمٍ نَكِيرِ" ليرفض محاولات تقسيم البلدان العربية وتشتيت الهوية الوطنية. وهذا الرفض الواضح يتناغم مع فلسفة القصيدة التي تدعو إلى وحدة الكلمة والهدف في مواجهة القمع والتجزئة.
3. البُعد الوجداني:
رغم هذه الصور السياسية، فإن القصيدة تنبض بالوجدان العميق، وتُعبّر عن حزن الشاعر على واقع مأساوي، لكنه في الوقت نفسه ينبض بالأمل. الشاعر يعبر عن رؤيته للمستقبل، ففي قوله "مُرَادِي أَنْ أَرَى نَفَقًا وَضَوْءًا"، يقدم صورة الأمل التي تبحث عن الضوء في نفقٍ طويل. هذه الصورة هي دعوة للأجيال القادمة أن تتجاوز الآلام التي خيمت على الوطن عبر العقود، لتسير نحو فجر جديد.
"لِسَاحِ الحَرْبِ أُدْفَعُ دُونَ دَفْعٍ"، هذا الشطر يعكس تضحيات الشاعر ورؤيته لمفهوم النضال. إنه لا يتساءل عن السبب أو العواقب، بل يقدم نفسه ضحية من أجل قضية أكبر من ذاته. وهذا التوجه نحو التضحية يشكل جوهر القصيدة، حيث تظهر المواقف العظيمة التي تمر عبر المحن لتكسب القيمة.
4. البُعد الفلسفي:
القصيدة تتضمن أيضًا تأملات وجودية وحكمة فلسفية حول معنى الحياة والموت. يرى الشاعر أن التاريخ لا يُكتب بالكلمات بل بالصراع، بالدماء التي تُراق، والآلام التي تتجاوز حدود الجغرافيا والزمان. "هُوَ التَّارِيخُ يُكْتَبُ بِالصَّرِيرِ"، هذه الجملة تلخص فلسفة الشاعر بأن العبرة في الحياة ليست في السكون أو الانصياع للظروف، بل في الصراع المستمر الذي يكتب التاريخ بطريقته الخاصة.
هذه الصورة التي يطرحها الشاعر تؤكد على ضرورة العودة إلى الوعي الوطني والجماعي، والابتعاد عن الضياع في محاكاة القيم التي لا تُعبّر عن واقعنا. فمن خلال "ضَرِيرُ القَلْبِ يَخْبِطُ دُونَ عَقْلٍ"، يشير إلى أن من لا يملك بصيرة في هذه الأيام، سيظل يعيش في ظلام اللامبالاة.
5. البُعد الجمالي:
القصيدة تزخر بالجماليات اللغوية والتعبيرية التي تجعلها تلامس الروح. الشاعر يستخدم الصور والاستعارات بعناية تامة، وتُضفي على النص إيقاعًا شعريًا مُبهرًا. في "نَقِيٌّ لَا يَكُفُّ عَنِ الخَرِيرِ"، نرى تناقضًا جميلاً بين النقاء والخرير، بين صفاء الماء وضجيج الألم، مما يخلق تباينًا دراميًا يرفع من قيمة القصيدة.
الختام:
قصيدة "إليكم يا بني وطني" هي نموذج لقصيدة شعرية تمزج بين السياسة والفلسفة والوجدان. هي دعوة للوحدة في وجه الطغيان، وتأكيد على أن المقاومة هي السبيل الوحيد لحماية الهوية الوطنية. تركي عامر لا يكتب الشعر فحسب، بل يكتب التاريخ الذي لا تكتبه السلطات بل تُكتبه القلوب التي لا تكف عن النضال. في هذه القصيدة، يصرخ الشاعر ليقول لنا: لا تبقى في الظل، بل انطلق نحو الأمل رغم كل المحن.
القصيدة:
إِلَيْكُمْ يا بَنِي وَطَنِي نَفِيرِي،
بِحِبْرِ القَلْبِ يَكْتُبُهُ ضَمِيرِي:
ضَمِيرُ الحُرِّ يَعْرِفُ مَنْ تَعَدَّى
بِإِرْهابٍ عَلَى جَبَلٍ عَسِيرِ.
هِجَاءً لَا أُجِيدُ وَلَسْتُ أَهْوَى
حِوَارَاتِ الفَرَزْدَقِ مَعَ جَرِيرِ.
فَتِيلُ الحَرْبِ يَعْرِفُ مَنْ تَصَدَّى
لِطُغْيَانٍ وَطَاغِيَةٍ خَطِيرِ.
خُطُورَتُهُ بِمُخْتَصَرٍ جَهِيرٍ
تُرِيدُ الآنَ تَقْرِيرَ المَصِيرِ.
هُناكَ الشَّعْبُ مُذْ زَمَنٍ تَرَبَّى
عَلَى حُبٍّ لِسُورِيَا كَبِيرِ.
بِكُلِّ الحُبِّ وَاحِدَةً نَراها
وَنَرْفُضُ أَيَّ تَقْسِيمٍ نَكِيرِ.
مُرَادِي أَنْ أَرَى نَفَقًا وَضَوْءًا
يُوَجِّهُنا إِلَى دَرْبِ يَسِيرِ.
لِسَاحِ الحَرْبِ أُدْفَعُ دُونَ دَفْعٍ
أَكُونُ وَلا أَكُونُ فَذَا مَصِيرِي.
هِيَ الدُّنْيَا مَواقِفُ لَيْسَ إِلَّا
وَأَنْبَلُهَا مُسانَدَةُ الضَّرِيرِ.
ضَرِيرُ القَلْبِ يَخْبِطُ دُونَ عَقْلٍ
وَلَا يُعْنَى بِتَأْنِيبِ الضَّمِيرِ.
23/07/2025 09:21 am 22