.png)
كنوز نت - بقلم الكاتب : سليم السعدي
ذكريات الماضي ومخاوف المستقبل: بين نكبة الأمس وظلال نكبة جديدة
بقلم الكاتب : سليم السعدي
خمسة وسبعون عامًا مرّت منذ أن نزلت النكبة الأولى على فلسطين وشعبها، فكانت جرحًا مفتوحًا في جسد أمة بأكملها. في عام 1948 لم تكن النكبة حدثًا عابرًا أو محطة مؤقتة في صراع طويل، بل كانت زلزالًا اقتلع شعبًا من أرضه، وسرق منه هويته وتاريخه، ووزّعه بين مخيمات اللجوء والمنفى، في وقت ظن فيه المحتل أن هذا الشعب سيذوب في غياهب الشتات ويختفي مع الزمن. ظنوا أن الخريطة ستُرسم بلا مقاومة، وأن ذاكرة الناس ستُمحى، وأن الأجيال الجديدة ستنشأ بلا جذور، فاقدة الذاكرة والانتماء.
لكن خمسة وسبعين عامًا من الألم والقهر لم تُسقط القضية، ولم تُنهِ ذاكرة الأرض. بل صارت النكبة وقودًا لإحياء الهوية الفلسطينية في وجه محاولات الطمس، وصارت المخيمات مدارس للوعي والرفض بدل أن تكون مقابر للنسيان. ومع ذلك، بقي الجرح مفتوحًا، لأن الاحتلال لم يكتفِ بما فعل، بل واصل مشروعه الاستيطاني والتهجيري، وتمادى في مصادرة الأرض وتهويد المقدسات، حتى وصل بنا الحال إلى مشهد لا يختلف كثيرًا عن بدايات القرن الماضي، حيث يطل شبح نكبة جديدة يهدد ما تبقى من شعب وأرض.
اليوم، وبعد مرور أكثر من سبعة عقود، نرى قادة الكيان الصهيوني يعلنون بلا مواربة أن "فلسطين للصهاينة وحدهم"، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وكأن العد التنازلي لنكبة ثانية قد بدأ بالفعل. هذه التصريحات ليست مجرد شعارات سياسية، بل هي إنذار صريح بأن مرحلة جديدة من التهجير والاقتلاع قد تُفرض على الفلسطينيين، خاصة في ظل الدعم الغربي المستمر، والانقسام العربي، والسكوت الدولي الذي بات يشرعن جرائم الاحتلال تحت مسميات "الدفاع عن النفس" أو "حماية الأمن".
لكن الحقيقة التي يتجاهلها المحتل وحلفاؤه أن خمسة وسبعين عامًا من الاحتلال لم تمنحهم الأمن أو الاستقرار. على الرغم من تفوقهم العسكري والدعم الدولي غير المحدود، لم يهنأ الكيان الصهيوني يومًا بالعيش على أرض سُرقت من شعب آخر. كل يوم يمرّ، يعيش هذا الكيان حالة استنفار دائم، يواجه انتفاضات متكررة، وعمليات مقاومة، وضغطًا سياسيًا وإعلاميًا متصاعدًا. فالأرض التي تُبنى على الظلم لا تمنح السلام، والتاريخ علّمنا أن المستعمرين مهما بدوا أقوياء، فإنهم يعيشون دائمًا تحت شبح زوال مشروعهم.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل ما يعيشه هذا الكيان لعنة من السماء؟ أم هو ببساطة نتيجة حتمية لسنن التاريخ وقوانين العدالة الكونية؟ فالتاريخ مليء بالإمبراطوريات التي ظنت نفسها خالدة، واعتقدت أنها فوق المحاسبة، لكنها انهارت في لحظة حين بلغت ذروة غرورها وظلمها. واليوم، حين نرى الاحتلال يعيث في الأرض فسادًا، يقتل ويهدم، ويحاصر ويجوع، حتى صار يرى نفسه فوق القوانين والشرائع، فإننا ندرك أن غروره قد يقوده إلى نهايته المحتومة.
لكن المخاوف الحقيقية ليست فقط على حاضر الفلسطينيين، بل على مستقبل المنطقة بأكملها. فالتصعيد المستمر، وسياسات التهجير القسري، ومحاولات تصفية القضية، قد تشعل حربًا أوسع تمتد آثارها خارج فلسطين، وتفتح أبوابًا لصراعات إقليمية ودولية قد لا ينجو منها حتى مفتعلو النكبات أنفسهم. فالتاريخ يقول إن النكبات الكبرى لا تلتهم الضحايا وحدهم، بل غالبًا ما تنقلب على صانعيها.
وفي ظل هذه التطورات، يبقى السؤال الأكبر: كيف يمكن للشعوب أن تتجنب تكرار المأساة؟ أول الطريق يبدأ بإحياء الوعي العربي والإسلامي والعالمي بأن القضية الفلسطينية ليست مجرد صراع حدود أو نزاع قومي، بل هي قضية عدالة إنسانية، وجزء من معركة أوسع ضد منظومات الظلم والاستعمار. يجب أن يدرك العالم أن أي محاولة لفرض نكبة جديدة على الفلسطينيين لن تمر بلا ثمن، وأن استمرار الظلم سيولد مقاومة أعنف، وربما انفجارًا قد يعيد تشكيل المنطقة برمتها.
كما أن على الفلسطينيين، رغم كل الجراح والانقسامات، أن يدركوا أن وحدتهم هي صمام الأمان الوحيد أمام المخاطر المقبلة. فالتجارب السابقة أثبتت أن الانقسام الداخلي كان دومًا السلاح الأخطر بيد المحتل لتفتيت المقاومة وتمرير مشاريعه. فإذا كان الاحتلال يستعد لفرض واقع جديد بالقوة، فإن الرد لا يكون إلا ببرنامج وطني جامع يوحّد الصفوف، ويعيد للقضية زخمها الشعبي والدولي.
في الختام، قد تلوح في الأفق نكبة جديدة، وربما أشد قسوة من سابقتها، لكن التاريخ لا يسير دائمًا كما يشتهي الغاصبون. فالشعوب التي تتمسك بحقوقها، وتصرّ على الصمود رغم الجراح، قادرة على قلب الموازين مهما طال الزمن. ولعل النكبة القادمة –إن فُرضت– لن تكون على الفلسطينيين وحدهم، بل قد تكون القاضية على المشروع الصهيوني نفسه، إذا بلغ ذروة غروره وتمادى في تحدي قوانين التاريخ والعدالة.
فالتاريخ لا يرحم، والشعوب لا تموت، والحق مهما حُوصِر سيبقى أقوى من الباطل. والعد التنازلي الذي بدأه قادة الاحتلال قد لا ينتهي كما يتصورون، بل قد يكتب بداية النهاية لمشروعهم، ويعيد لفلسطين وجهها الحقيقي الذي حاولوا طمسه طيلة سبعة عقود ونصف.
22/07/2025 09:05 am 30