كنوز نت - بقلم: رانية مرجية


القصيدة التي نزفت: يحيى السماوي يكتب الوطن بجسده
بقلم: رانية مرجية
في زمنٍ تعفّ فيه الكلمات من فرط الألم، وتموت فيه القصائد خجلًا أمام صرخة يتيم أو دمعة أرملة، يُولد شعر لا يُقرأ، بل يُنزف. هكذا وجدتُ نفسي، وأنا أتصفّح ديوان "جرح أكبر من الجسد"، أقف على عتبات الحرف، لا كقارئة، بل كشاهدة على وجعٍ، غريبة في وطنٍ يشبهني ولا يشبهني، وطنٍ يسكنني ويفتك بي.
بين الصلاة والتمرّد: الإيمان الجريح
يفتتح السماوي ديوانه بنداءٍ صوفيّ الروح، مكلوم الفكر:
"ربّنا، إنّا سمعنا هاتفًا يهتف بالعدل الإلهي..."
لكن هذه الصلاة لا تلبث أن تنقلب على نفسها، كأنّ الإله ذاته قد خُدع ببشرٍ نكثوا العهد. هنا، لا يعود الإيمان ملاذًا، بل جرحًاإضافيًا، وخيانةً روحية ممن تاجروا بالوعد المقدس، وورّثوا الإمامة للباطل.
السماوي لا يكفر، لكنه يسائل الله بلغة المحزون، يفتح جرح الإيمان دون أن يفقد يقينه، ويكتب الألم على جدران الروح بمداد من صمتٍ مفجوع.
تمجيد الجوع وتعرية السلطان :
في هذا الديوان، لا شيء يعلو فوق الجوع – لا كحاجةٍ جسدية، بل كنداءٍ للعدالة.
الجوع هنا نبيٌّ، يفضح الكروش المنتفخة، ويصرخ في وجه القصور المذهّبة بخرائط الموت.
"كلّكم راعٍ... والجماهير خِراف!"
بجملةٍ واحدة، يختزل السماوي قرونًا من الاستبداد السياسي والديني.
كلمات لا تخجل من فضح "الخليفة"، و"المغني"، و"المفتي"، الذين تحوّلوا إلى شركاء في نهب القمح والنفط، وتبرير الذلّ باسم الدين.
لاهوت الأرض: الشعر كصرخة الأنبياء الجدد
"جرح أكبر من الجسد" ليس ديوانًا، بل كفنٌ مغمّسٌ بالعطر، يحمل بين طياته جثمان أمةٍ بأكملها.
قصائد السماوي لا تبحث عن البلاغة ولا المحسنات، بل تصرخ، تهدر، تنفجر كالبركان.
يرى الشاعر في القصيدة سيفًا، وفي الكلمات وسيلة للقصاص.
لا ينشد الجمال بل الحقيقة، والحقيقة عنده دامية، عارية، لا تتزيّن.
يصرخ دون مواربة:
"سأسمي الحاكم المترف وغدًا
وأسمّي قصره الماخور، والحاجب سمسارًا..."
يا له من مجدٍ أن يمتلك الشاعر شجاعة التسمية!
فالكلمات في هذا الديوان لا تكنّي ولا تُجامل، بل تُدين، وتُعرّي، وتحاكم.
نبوءة الهاوية... أم نداء القيامة؟
يتكرر النداء في النصوص بحرقة:
"يا صاحب الزمان... يا منقذنا..."

نداءٌ يائس، كصرخات الثكالى في مقابر النجف، أو وجع الأمهات في مخيمات الشتات.
لكن هذا النداء لا يفيض رجاءً، بل يكشف عجز الإنسان عن التغيير، واستسلامه البطيء للموت، وهو لا يزال يتنفّس.
كأنّ السماوي يكتب وصيّة الشعر الأخيرة، قبل أن يلفظ التاريخ أنفاسه الأخيرة.
خاتمة: الشعر كأداة عدالة
أكتب هذه السطور، لا كناقدة أدبية، بل كامرأة شهدت ما كتبه السماوي، كما يُشهد على موت قريب.
لقد أهدانا شاعر العراق والعروبة ديوانًا بحجم الوطن، ديوانًا لا يُقرأ بل يُحسّ، لا يُحلّل بل يُبكى.
"جرح أكبر من الجسد" هو الجرح الذي نحمله جميعًا؛ في فلسطين، في العراق، في كلّ أرضٍ نُهبت باسم الله.
لكنّه أيضًا شمعة لا تنطفئ، وسيف لا يصدأ، ونداء لا يُكتم.
فليُقرأ هذا الديوان لا كمجموعة شعرية، بل كوثيقة مقاومة، كإنجيل جديد للكرامة.