.png)
كنوز نت -
فراديس إنانا": تجلّيات الخلاص والموت في شعر يحيى السماوي
قراءة وجدانية جمالية بقلم: رانية مرجية
في ديوان فراديس إنانا، لا نقرأ قصائد متفرقة، بل نُقادُ إلى مدوّنة روحية كُتبت بدم القلب ونار المعاناة. هنا، الشاعر يحيى السماوي لا يكتب شعرًا فحسب، بل يُقيم معبدًا لغوياً تتعانق فيه الأنثى والإله، الوطن والمنفى، الصعود والهبوط، الرغبة والعقاب. هو عمل شعري فريد، تتكاثف فيه الأسطورة والواقع، وتتشابك فيه رموز الحب الإلهي والشوق الإنساني، ليصير الشعر نبوءة وصلاة ومرآة لحلم بعيد المنال.
✦ إنانا تهبط: المعشوقة والمخلّصة والنبية
منذ السطور الأولى، تهبط إنانا من برجها العلوي، لا لتغوي كما اعتدنا في الميثولوجيا، بل لتحتجّ. إنها تمثّل احتجاج الأنثى الكونية على فساد المعبد الأخضر، على رجال الدين المرائين، وعلى تبر كلكامش المُكدّس في قصور الطغاة. إنها أنثى سومرية، لكنها أيضًا فلسطينية وسورية وعراقية، إنها امرأة الأرض المهدورة، والوطن المغتصب، والهوية الباحثة عن خلاص.
يكتب السماوي:
"هبطتْ من برجها العلويّ إنانا / احتجاجًا على أنليلَ وما يكنزُ من تبرٍ ومالٍ وقيانْ..."
هبوط إنانا هو بداية الثورة، إنه انكسار الرمز الذكوري وولادة حلم جديد، تفتح فيه الأنثى صدرها للشعراء، وتلبس العشب بدل الحرير، وتستبدل التاج بالقنب الأبيض والعطر الطبيعي.
✦ معراج الشاعر: من جسد الغواية إلى فردوس الحرف
الشاعر نفسه يعيش في نصوص هذا الديوان تجربة صوفية فائقة، يتدرّج فيها من غواية "شامات"، إلى عشق "إنانا"، إلى خيبة "أوروك" المعاصرة. يبدأ كالطفل، ثم يتحول إلى نبي، ثم إلى رماد. في كل مرحلة، اللغة تصير أثقل، أعمق، أشدّ غموضًا وشفافية في آن.
"قلتُ يا مولاتي المعصومة اللذات / سمعًا وامتنانْ
أنا أتعبني اللهوُ
وأغواني كما أغوى أنكيدو شمّاتْ..."
في هذا التحول، يصعد الشاعر إلى الفردوس ثم يُلقى إلى الجحيم. فـ"فراديس إنانا" ليست وعدًا بالخلاص، بل اختبارًا مريرًا للحقيقة. هي الحلم حين يُكوى بالخذلان، والحب حين يُغلف بالأسئلة، والقصيدة حين تتبدّد في متاهة الرموز.
✦ بين أوروك القديمة وأوروك المعاصرة: جغرافيا الخراب
من أكثر ما يلفت في هذا العمل هو إسقاط المدينة السومرية "أوروك" على حاضرنا العربي. ففي أوروك القديمة، كانت إنانا تزرع الحياة، وكان الراعي والملك والراهب يتساوون في الكرامة. أما في أوروك السماوي، فكل شيء احترق:
الكاهن لص،
القاضي فاسد،
والفنّ تحول إلى تجارة،
والشمس صارت تستجدي الضوء من فانوس.
هذه هي صورة حاضرنا. والمفارقة أن الشاعر لا يعلن اليأس، بل يسرد الخراب كمن يهيئ الأرض لزراعة جديدة، كأنّ الشعر هو الفأس الأخيرة التي تحرث اليباب.
✦ لغة مغموسة بالنار والعطر
اللغة في هذا الديوان ليست مجرد أداة، بل هي كائن حي، يتنفس ويئنّ ويتوهّج. فالشاعر يزاوج بين مفردات سومرية قرآنية توراتية، وصور حسية حادة تنبض بالجسد والروح معًا. نقرأ الشعر فنشعر أننا في حضرة صلاة، أو تراتيل، أو حفلة جنائزية لجنازة الحب الأول.
"أنا زرعٌ وقد حان حصادي
ما من سُحبٍ
تُنْبِئُ عن غيثٍ مُغيثٍ
يُعشِبُ الأرضَ من فارقي..."
كل بيت هنا يحمل شحنة فلسفية وجدانية عالية. ليست القصيدة ترفًا لغويًا بل حالة وجودية. كل كلمة مختارة بعناية غريزية، تُمزج بالحبر والدّم والندم والحنين.
✦ الخاتمة: قصيدة في شكل نبوءة
"فراديس إنانا" ليست مجرد مجموعة شعرية، بل هي ملحمة روحية تُستعاد فيها الأسطورة لا لتُحكى، بل لتُستنهض. وهي، في وجه من وجوهها، وصية يحيى السماوي الأخيرة لنا، أن نبحث عن خلاصنا في قلوبنا، لا في كلكامش السياسي، ولا في الأصنام الحديثة. أن نعود إلى "إنانا" في داخلنا، لنستعيد ما تبقّى من ضوء.
إنها فردوس الكلمة الأخيرة في صحراء القصيدة.
19/07/2025 07:51 pm 38