كنوز نت - رانية مرجية

عندما يضيء الألم: تأملات فلسفية في قصيدة فوز فرنسيس ” صعقة كهربائية” 




في عالم يعج بالفوضى، يطغى فيه الضجيج على صمت الروح، تظهر قصيدة فوز فرنسيس كواحة ظليلة في صحراء الواقع. شعرها ليس مجرد كلمات متراصة على الورق، بل هو مواجهة عميقة مع الذات، غوص في عمق الإنسان، وصراع مع يقين الوجود وحيرة اللامعنى. في قصيدتها، تغدو الكلمات جسورًا نحو الأسئلة الوجودية الكبرى، نحو تلك اللحظات التي تلامس فيها الروح حدود الحافة بين الفهم والضياع.
في أحد مقاطع القصيدة، تختصر الشاعرة الوجود الإنساني في لحظة صدمة وجودية، حالة من الذهول العقلي والنفسي التي تضع القارئ في قلب المعاناة. الصورة هنا لا توصف بالصوت أو اللون، بل بالأحاسيس التي تتسارع داخل الجسد والعقل في لحظة انقطاع: “ترتجف خلايا الدماغ… تُشلّ تفكيرك”. هذه الكلمات ليست مجرد تصوير لألم، بل هي دلالة على اختلال التوازن بين العقل والجسد، وهو اختلال يوازي الصدمة الكبرى التي تصيب الإنسان عندما يُحرم من القدرة على الفهم، على التفسير، على التحكم في أفكاره. وتغدو القصيدة، في جوهرها، بحثًا فلسفيًا عن الوجود، محاولة لاستعادة التعادل المفقود بين الطاقات العقلية والداخلية في مواجهة عالم يكتسحنا بعشوائيته.
وتتابع الشاعرة في مقطع آخر تأملاتها حول كيفية تعامل الإنسان مع عقله، فتطرح القلق الفلسفي حول حدود الفكر البشري: “حاذر أن تفصح ببنت شفة”. في هذه السطور، هناك دعوة إلى الوعي بحركة العقل، بالحذر من الكلمات التي تخرج من أفواهنا وتحمل أوزارًا ربما نغفل عنها. هذه الدعوة لا تكتفي بتنبيه سلوكي، بل تحث القارئ على التأمل فيما يراه عقله وما يشعر به قلبه، في توازن هشّ يمكن أن يتحطم إذا ما تاه العقل في متاهات الشكوك والقلق الوجودي.
ويتسع أفق القصيدة ليشمل قلق الإنسان المعاصر من الغزو التكنولوجي، والتهديد الذي تسببه الآلات في فقداننا لتلك البصمة الإنسانية التي تميزنا. عندما تقول الشاعرة: “ذكاء اصطناعي مثلاً بات يقوم بالواجب”، فإنها لا تسجل مجرد ملاحظة عابرة، بل ترسم لوحة رمزية لهذا التهديد الزاحف نحو إنسانيتنا. القصيدة تُخاطب القارئ وكأنها تنذره: نحن على مفترق طرق، فإما أن نتمسك بجوهرنا البشري، أو نسمح لأنفسنا بالذوبان في عالم الآلة البارد.
إن القصيدة، رغم الألم والقلق الذي تنقله، لا تستسلم لليأس، بل تبدو كرحلة من الظلمة إلى النور، من الارتباك إلى التأمل، من الغفلة إلى الصحوة. كل سطر فيها يفتح بابًا للتساؤلات، وكل صورة تضع القارئ أمام مرآة الذات.
قصيدة فوز فرنسيس ليست مجرد عمل أدبي، بل هي نص وجودي يتعامل مع أعقد ما يواجهه الإنسان في هذا العصر: ضياع المعنى، التوتر بين العقل والعاطفة، والتهديد الكامن في فقدان الذات. كلماتها لا تدعنا نقرأ فحسب، بل تدعونا لنغوص فيها، ونلامس بأسئلتها أرواحنا التي تحتاج إلى يقظة.
إنها قصيدة تُكتب لتُقرأ مرارًا، لأنها لا تمنحك أجوبة، بل تمنحك مرآة. مرآة ترى فيها صراعاتك وهواجسك، وأحيانًا، ذلك النور الخافت الذي يلوح في نهاية نفق الذات.

أما نص القصيدة والتي نشرت على صفحات مجلة شذا الكرمل ( حزيران 2025( فهو كالآتي :
صعقةٌ كهربائيّة

مثل صَعقةٍ كهربائيّةٍ
تأتي الصّدمةُ أحيانًا 
تضربُ خلايا الدماغِ.. تشلُّ تفكيرَك
تهزُّ وعيَك فَيضطربُ إدراكُك
تنتفضُ أحشاؤك عميقًا داخل الجسد 
الرئتان بِتوتّرٍ ووتيرةٍ متسارعة 
ولا يُسعفُ الزفيرُ ولا التأوُّه
تلوكُ أمعاؤُك الوجعَ 
وَكَحجرِ الرّحى تفتّتُ هولَ الحَدث
وتبعثُه في شرايينِك فَلا تقوى على الحركة…
يتلعثمُ لسانُك في تجويفِ فمِك 
فلا تسأل ولا تستفهم..
هذا أصلًا ليس من شأنك…
أنت فقط مُتلقٍّ جيّد…
لكَ أن ترى وتُتابعَ وتكونَ على درايةٍ ومعرفة…
ولكَ أن تحفظَ وتخزّنَ في ذاكرتِك ما يجولُ بالجوار…

هل تعطّبَت ذاكرتُك بالمناسبة؟ هل فيها متَّسعٌ بعد؟
إيّاك أن تُعمِلَ ما تبقّى فيك من فكرٍ وعقل
خشيةَ أن تقودَ ذاتَك لمستنقعِ الجنون 
حاذِر أن تُفصحَ ببنتِ شفةٍ 
كلُّ حرفٍ باتَ ثقيلَ الوزنِ مُكلِفًا.
تَقَوقَعْ في حصنِك وقُمقمِ ذاتِك
وانتبه فقط لئَلا يطرقَ أذنيك فيروسُ الدُّوار
وفي خَربشاتِك ورسوماتِك 
تجنّب علاماتِ السؤالِ والاستفهامِ وما شابهَها…
فالمَنطقُ لم يَعُد مساندًا لك 
يقومُ هو بِجولاتٍ مكّوكيّةٍ في فضاءِ الكون الرّحبِ
باحثًا عن مؤيّدين جُدد يُقنعهُم بِأحابيلِه.
نظريّاتُ الفلاسفةِ وأقوالُهم المأثورةُ غادرت كتبَ اليقينِ
وباتت قابعةً في خندقِ الشكِّ…
والحقيقةُ تُجرجِرُ أذيالَها 
أوهنَ من بيتِ العنكبوتِ باتت.
العدلُ تكسّرَت أجنِحتُه قديمًا 
وما زالت محاولةُ ترميمِ ميزانِه مُتأرجحةً…
قالها الشاعرُ منذ قرنٍ؛
والعدلُ في الأرض يُبكي الجنَّ لو سمعوا به…
فَمَن يُسعِفك!؟ 
وَلماذا تُشغلُ بالَك في تفكيرٍ عقيم!
لا تأخذِ الأمورَ كلَّها على مَحملِ الجدِّ
دَع سفينةَ الأيامِ تُبحرُ مع التيّار 
وتمخُرُ في لُججِ الصّخبِ
وارقُب نزرًا بعينِ القلقِ أو الكَرَبِ…
في مداراتِ الفضاءِ… 
هناك من يُسعف وينوبُ ويتولّى المَهمّة 
إن تبلبلَ وثَقُلَ في رأسِك الفِكرُ…
ذكاءٌ اصطناعيّ مثلًا، باتَ يقومُ بالواجب!! 
يخفّفُ وَطأَةَ الهمِّ وَصديقٌ في متناولِ اليدِ 
فَلا تسرحْ بالخيالِ ولا تُطلق له العَنانَ 
الإبداعُ والإلهامُ مكبَّلانِ وطوقُ النّجاةِ يستَجدي…
والسماءُ ضبابيّةٌ فضاءاتُها باتت ولم تَعُدْ بذاتِ الجمال…