كنوز نت - الشيخ عبد الله ادريس عضو حركة الدعوة والإصلاح


ويُسلّموا تسليمًا
الشيخ عبد الله ادريس عضو حركة الدعوة والإصلاح
يأتي يومُ عاشوراءَ بآمالِهِ وبشرياتِهِ ليذكرَنا بنبيّ اللهِ موسى – عليه السلام - يومَ خروجِهِ مع بني إسرائيل من مصرَ، وشُقّّ له البحرُ فخرج بقومه، ولما بلغوا الجهةَ الثانية رأوا فرعونَ وجنودَه وراءهم، فانتفض من معه فقالوا: "إنا لمدركون" وإذ بموسى – عليه السلام- يجيبهم "إن معي ربي سيهدين"، وكأنه يقول لهم: استسلموا لأمر الله، فمن أمركم بالخروج تكفل بنجاتكم وإن كان الواقع لا يصدقه.
ومن هنا، لئن كان الواقع يشهد بعلو الطّغاةِ فلا يضير المؤمن ذلك ولا يجزع، فإنَّ وعد الله لآتٍ، ومهما علا الباطل فإننا موقنون بوعد الله ومسلّمون لأمره أن الفرج قريب وأن النصر للإسلام، فبهذا نوقن ونسلّمُ بلا جزع.
زوّجَ معقل بن يسار –رضي الله عنه- أخته لرجل، وتساهل معه في المهر والشروط. وبنزغة شيطان بعد ذلك طلق الرجل المرأة، فغضب معقلٌ لأخته، حيث إنه أكرم صِهرَه، ويسّرَ عليه أمر زواجه، فيقابل ذلك الإكرام بالطلاق. وبعد انتهاء عدتها، ندم الرجلُ وأراد َأن يعود لزوجته، فذهب ليخطبها مرة أخرى من أخيها، فقال له: زوجْتُكَ وأكرمتُكَ ثم طلقتَهَا، لا والله، لا ترجع إليك؛ فأنزل الله آيات معقلَ بن يسار عن ذلك فقال تعالى: "فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ" [سورة البقرة:232]، أي: لا تمنعوا بناتكم وأخواتكم -أيها الأولياء- من الرجوع لأزواجهنَّ إذا أرادوا ذلك بالمعروف؛ فقال معقل عندها: سمعًا لربي وطاعة. وزوّجَه إياها. كانت قضية الاستسلام، وعدم الاعتراض، والمسارعة الفورية لأمرِ الله سمة بارزة في ذلك المجتمع.
خاصم رجلٌ من الأنصار الزبيرَ بن العوّام (ابن عمة النبي) في شِراجٍ من الحرَّة (مجاري المياه التي يسيل منها للأراضي) يسقي بها النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسقِ يا زبير، فأمِرَّهُ بالمعروف، ثم أرسِلْ إلى جارك، فقال الأنصاري: إن كان ابنَ عمتك؟ (يقصد الرجل أن النبي لم يحكم بالعدل، وإنما حكم للزبير أن يسقي أرضه بالماء أولًا ثم يرسل الماء إلى جاره، وذلك لأنه ابن عمته صفية) فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال للزبير: اسقِ، ثم احبس (أي الماء)، يرجع الماء إلى الجَدْرِ، واستوعى له حقه، فقال الزبير: والله إن هذه الآية أُنزلت في ذلك: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾. فلا كمال لإيمانك إلا باستسلامك لربك الذي لا تثبت على دينك في وجه الفتن إلا بكثرة استسلامك دون نزاع. يقول الإمام الطحاوي رحمه الله: "ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام".

وفي مشهد للموت المحقَّق، والإبادة الجماعية القريبة يطارد فرعون أتباع موسى بكل قوته وعدته وعتاده، فيصل الأمر إلى صورة المشاهدة العينية، التي تفوح منها رائحة الدم؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، نفوس خلعها الخوف، فلم يعد لها تفكير إلا ما تشاهده من الهلكة المحققة، لم يستطيعوا التفكير إلا بالمواد الأرضية، فجاءت النقلة الربانية والثقة برب البرية؛ فقال تعالى على لسان موسى: ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]، قلوب استسلمت لربها، ووثقت عُرى إيمانها بوعده، فجعل الطمأنينة نصيبها، فكان الفرج في أبسط أمرها؛ قال تعالى: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ [الشعراء: 63 - 66]، انتهت القوة الفرعونية بعصًا، يكفيك أدنى سبب مع استسلام القلب وتفويض الأمر لله، فالماء الذي نجا به نوح هو الذي أغرق به فرعون، فالله مصرف الأمور والأحوال، وهو على كل شيء قدير.
إن المسلم الذي يؤمن بالغيب، ويوقن بوعد رب العالمين، لا يضيره ما يرى حوله من غطرسة الباطل وتجبر الطغاة وعلو الظالمين، فكل ذلك لا يؤثر على ثقته بوعد ربه أن النصر للإسلام، وإن كان الواقع خلاف ذلك. ولأننا نوقن بذلك، فإننا نستسلم لأمر الله عز وجل ونؤمن أن العاقبة لمن استضعفوا في الأرض ليمكن لهم فيها ويري الطغاة والظالمين ما كانوا يحذرون.
لئن حدثوكم بغطرسة الباطل فأجيبوهم بقول الله تعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله). {البقرة 249}.
ولئن حدثوكم بقصف ودماء وقتل أبرياء، فحدثوهم بقوله جل جلاله: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين* وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين). {سورة آل عمران 140-141}.
ولئن حدثوكم بضعف الأمة والهوان، فحدثوهم بقوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين). {آل عمران 139}.
ولكل فرعون بحر سيغرقه – ولكل موسى رب سوفَ ينجيه
ولكل طاغٍ يومٌ سيدركه – ومن قصره حتما موسى يرديهِ
عاشوراء شكر الإله مسرة - ولشعبنا يومًا مثله يبديه