
كنوز نت - بقلم الكاتب الفنان: سليم السعدي
شارون ورابين... حين يصبح الاعتراف بالحقيقة خيانة في عرف الصهيونية الدينية
بقلم الكاتب الفنان: سليم السعدي
في خطابه الأخير قبل أن يدخل في غيبوبة طويلة أنهت مسيرته السياسية، فاجأ رئيس وزراء الاحتلال الأسبق أريئيل شارون الجميع بتصريحٍ نادر في وضوحه وصدقه. قال:
"أظن أن فكرة أنه بإمكاننا الإبقاء على الاحتلال، نعم، تحت الاحتلال... ربما لا تحبون هذا اللفظ، لكنه في الحقيقة الأمر احتلال. إبقاء ثلاثة مليون ونصف فلسطيني تحت الاحتلال، حسب رأيي، هو أمر سيئ جدًا، ولا يمكن أن يستمر إلى الأبد. تريدون البقاء دائمًا في جنين؟ في نابلس؟ في رام الله؟ في بيت لحم؟ ... دائمًا؟ ."
لم يكن هذا الاعتراف عابرًا، ولا هفوة لغوية. بل هو كشف نادر من داخل المؤسسة الأمنية والسياسية التي طالما أنكرت واقع الاحتلال. لكن الأهم من مضمون الخطاب كان الحضور: بنيامين نتنياهو، الذي التقطته عدسات الكاميرات بنظراته الشرسة والغاضبة، كأنه تلقى طعنة في قلب العقيدة التي يتبناها.
هذا الخطاب أعاد إلى الأذهان مصير يتسحاق رابين، الذي دفع حياته ثمنًا لاتفاقية أوسلو. فنتنياهو، وقتها، كان أحد أبرز المحرضين عليه، ظهر في تظاهرات اليمين مرتديًا زيًّا نازيًا، وسمح لأنصاره برفع صور رابين بالحطة الفلسطينية أو مشنوقًا. وبعد حملة تحريض من هذا النوع، قُتل رابين على يد متطرف يميني، في مشهد دموي يعكس رفض الصهيونية الدينية لأي مشروع سلام.
لكن الأمر لم يقف عند الرفض السياسي، بل تَكشّف لاحقًا أن تعطيل فرص السلام في الشرق الأوسط لا ينبع فقط من منطلقات أمنية أو توسعية، بل من رؤية توراتية خلاصية متطرفة. كبار الحاخامات الذين يوجّهون التيارات الصهيونية الدينية، طالبوا نتنياهو صراحة بتسريع قدوم "المسيح المنتظر" – الذي هو في الرواية الإسلامية "المسيح الدجال" – من خلال تفجير الوضع الإقليمي ونسف كل مبادرات التسوية.
هذه النبوءات، التي تُدرّس في المدارس الدينية وتُكرّس في الوعي السياسي اليميني، تشترط أن يُسفك الدم، وتُشن الحروب، ويُبنى الهيكل على أنقاض الأقصى حتى يظهر "المخلّص". لذا تعمّد نتنياهو تعطيل كل مسار للسلام، وفضّ الشراكات حتى مع الدول المطبعة والسلطة الفلسطينية، ورفض أي حديث عن إقامة دولة فلسطينية أو التنازل عن شبرٍ واحد من الأرض.
وقد كشف نتنياهو في أكثر من مناسبة غير مباشرة عن خضوعه لهذه الإملاءات الدينية، مشيرًا إلى "حتمية الصراع"، و"حرب المصير"، بل واستدعى في تصريحاته مصطلحات توراتية صريحة مثل "هرمجدون" و"الهيكل الثالث."
ومن هنا نفهم طبيعة حكومته الحالية، التي تضم وزراء نازيين وفاشيين، يلهبون الداخل والخارج، ويشعلون الحروب، ويحرّضون ضد العرب واليسار والعالم. هي حكومة مشروعها الحقيقي ليس الأمن، بل تسريع الكارثة الدينية الكبرى، ظنًا منهم أنها ستجلب الخلاص.
إذن، ما نواجهه لم يعد فقط احتلالًا، بل عقيدة مدمرة ترى في الحرب طريقًا إلى الجنة، وفي الدماء محرّكًا للنبوءة، وفي السلام خيانة لله والتاريخ
وهنا مكمن الخطر. مواجهة هذا المشروع لا تكون فقط بالشجب السياسي أو الضغط الدولي، بل بفضح أساسه الديني المتطرف، وخلق خطاب بديل يُعيد الاعتبار للحقيقة الفلسطينية، ويُحرر الصراع من قبضتهم اللاهوتية الدموية. علينا أن نعيد تموضعنا، إعلاميًا، سياسيًا، وثقافيًا، ونعزز الرواية الإنسانية والأخلاقية لقضيتنا، ونفضح زيف المشروع الصهيوني في جوهره: مشروع إحلال، مبني على خرافات مغلفة بالعنف.
التاريخ لا يرحم، والتخاذل لن يُبقي أحدًا خارج المعركة. نحن في لحظة فارقة، فيها يجب أن نختار بين الاستسلام لخرافات الدمار، أو إعادة بناء مستقبل مشترك على قاعدة الحرية والحق والعدالة.
لكن وراء مشروع تعطيل السلام في الشرق الأوسط لا تقف فقط المصالح الاستراتيجية أو الحسابات الأمنية، بل ينبع هذا المشروع من رؤية لاهوتية توراتية يتبناها كبار الحاخامات الذين يوجّهون النخبة السياسية اليمينية في إسرائيل، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو. هؤلاء الحاخامات، الذين يتزعمون التيارات الصهيونية الدينية المتطرفة، يؤمنون بأن السلام هو معرقل أساسي في طريق "مجيء المسيح" حسب معتقداتهم، وأن أي تنازل سياسي يُعتبر تمردًا على "أمر الرب."
في جلسات مغلقة وتصريحات غير رسمية، وُثّقت مطالب صريحة من بعض كبار الحاخامات لنتنياهو، يطلبون منه صراحة أن يُسرّع من مقدم "المسيح المخلص" (وهو بنظرهم المسيح اليهودي، لكنه بحسب المفهوم الإسلامي هو المسيح الدجال)، عبر خطوات ملموسة، أولها تعطيل أي مسار للسلام، وثانيها فرض السيادة الكاملة على كل "أرض إسرائيل الكبرى"، بما في ذلك الضفة الغربية والقدس، وثالثها تفجير صراع شامل يعجّل بما يسمّونه "حرب هرمجدون" تمهيدًا لبناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى المبارك.
ولذلك نرى أن نتنياهو لم يكتف بتجميد المفاوضات أو خرق الاتفاقات المعقودة مع السلطة الفلسطينية والدول المطبّعة، بل ذهب أبعد من ذلك، بتفكيك أي شراكة سياسية داخلية من شأنها أن توازن تطرفه، ثم أعاد تركيب حكومته بأكثر النماذج تطرفًا ونازيةً وفاشية، حتى أصبحت تضم شخصيات تدعو علنًا لطرد العرب، وتهديد المقدسات، وسنّ قوانين عنصرية تجاوزت خطّ "قانون القومية."
والخطير أن هذه الحكومة لا تكتفي بإشعال الحروب في الخارج، بل صارت تتعمد إثارة الأزمات في الداخل، سواء عبر تقييد عمل القضاء، أو استهداف الأقلية الفلسطينية في الداخل، أو تصعيد العدوان على غزة والضفة، في سبيل خلق حالة دائمة من التأزم والتوتر تسهّل عليهم تمرير أجندة "الحرب الدينية" الكبرى.
وفقًا لعقيدتهم، فإن الدم شرطٌ لظهور المسيح المنتظر، ولا يمكن بناء الهيكل من دون "ذبح القرابين". هذه ليست استعارات رمزية، بل برامج حقيقية تُدرّس في مدارس "الحريديم" و"الصهيونية الدينية"، ويتم ترجمتها عمليًا في قرارات حكومة نتنياهو.
وهكذا يتضح أن ما نشهده ليس فقط مشروع احتلال عسكري، بل مشروع "خلاص مزيف" مبني على خرافة لاهوتية مغلّفة بالدم، لا يقبل بالسلام ولا حتى بالتهدئة، بل يطارد فكرة المصالحة والتعايش لأنها تؤجل موعد "الخلاص" المزعوم.
في مواجهة هذا المشروع، لا بد من وعي عربي ودولي جديد يُدرك أن القضية لم تعد سياسية فحسب، بل دينية – أيديولوجية – وجودية، وأن الردّ عليها لا يكون فقط بالشجب أو الوساطات، بل بصياغة خطاب مضاد، يُعرّي هذا الفكر الخلاصي العنصري، ويُعيد القضية الفلسطينية إلى مركزها كقضية حرية، وعدالة، وإنسانية.
21/06/2025 09:03 pm 73