كنوز نت -  بقلم: رانية مرجية


صحفي الناجح: بين الحقيقة والنار… بين الضمير والعزلة
 بقلم: رانية مرجية
لا أكتب هذا المقال من برج عاجي، ولا من على مقعدٍ وثير في ندوة فاخرة، بل أكتبه من هامش الحكاية، من شقّ الروح، من حيث تقف الحقيقةُ عاريةً ترتجفُ في مهبّ الأكاذيب.
في زمننا العربي البائس، الذي صار فيه الصحفي إما شهيدًا أو متهمًا، إما ملاحَقًا أو مُسخَّرًا، يبدو السؤال عن “الصحفي الناجح” سؤالًا متمردًا، بل وربما ساخرًا. ومع ذلك، لا مفرّ من طرحه، لأن الحقيقة، رغم كل شيء، ما زالت تتنفس.
  •  من هو الصحفي الناجح؟ سؤال أم محاكمة؟
هل هو ذاك الذي يتقن اللغة أم من يُتقن الصمت حين يجب الصراخ؟
هل هو الذي يجيد ترتيب العناوين، أم ذاك الذي يرفض أن يُرقّع الحقائق؟
في المبدأ، الصحفي الناجح ليس موظفًا في مصنع أخبار، بل شاهدٌ على الزمن، على انكساراته وارتجافاته، على حروبه غير المعلنة، على صفقات الخيانة التي تُدار في الغرف المظلمة.
هو من يسير على حد السكين، يمشي بين شهوة الجماهير ومقصّ الرقيب، بين الحقيقة التي تُدفن ليلًا والتضليل الذي يُطبخ نهارًا.
هو ذاك الذي لا يملك سلاحًا سوى القلم، ولا درعًا سوى النزاهة، ولا وطنًا إلا الكلمات.
  •  بين النار والحبر: شهادة لا شهادة جامعية
ليس الصحفي الناجح من يحمل شهادة ماجستير في الإعلام، ولا من يعلّق شهادات دورات تدريبية على جدران مكتبه، بل من احترق قلبه مرارًا وهو يكتب.
الصحفي الناجح هو ذاك الذي عرف معنى أن يطرق الأمن بابه بعد تقرير، وأن يُلاحق على “بوست”، وأن يُمنع من حضور جنازة لأنه تجرّأ وقال الحقيقة.
تعلّمت من زملائي الذين غيّبهم القمع أو القبر، أن الصحفي الناجح لا يُقاس بعدد المتابعين، بل بعدد المرات التي خاف فيها وقال الحقيقة رغم ذلك.
وإن سألتني اليوم عن عدد الصحفيين الناجحين في العالم العربي؟
أجيبك بحرقة: قليلون… ومن بقي منهم، منهك، مُهدَّد، أو منسيّ.
  •  الصحافة ليست حيادًا… الصحافة انحيازٌ للعدالة
علمونا أن الصحافة يجب أن تكون “محايدة”.
لكنّ الحياد في قضايا الجوع والفساد والاحتلال ليس فضيلة، بل خيانة.
الصحفي الناجح لا يقف على الحياد بين الجلاد والضحية.
هو ينحاز. نعم، ينحاز للعدل، للحياة، لكرامة الإنسان.
حين يرى طفلة تُقتل في غزة، لا يكتب بلغة رمادية عن “تبادل عنف”، بل يسمّي الأشياء بأسمائها: مجازر، دم، تطهير عرقي، قتل جماعي.
حين يرى الفساد ينخر مؤسساتنا، لا يكتب تقارير ناعمة، بل يصرخ في وجه المافيا الإعلامية: كفى.
  •  الصحفي الناجح لا يكتب فقط… بل يفكك ويحلل ويُربك
هو ليس آلةً لنقل الأخبار.
بل مثقّف عضوي، ناقد، مشاغب، ومزعج.
يطرح الأسئلة التي يخشاها الجميع:
من سرق الحلم؟
من أفشل الثورات؟
من يقف خلف تجويع الشعوب وتخديرها؟
هو لا يخشى مواجهة السلطان، ولا يخجل من الوقوف إلى جانب المهمّشين.
وفي زمن الترويج والتسطيح، حيث أصبحت الصحافة “ترفيهًا” يبيع الوهم، يكون الصحفي الناجح خائنًا لهذا السوق، لأنه لا يبيع الوهم، بل يخلخل بنيانه.
  • الكاميرا ليست أداة، بل سلاح
الكاميرا التي يحملها الصحفي الناجح، ليست كاميرا فقط، بل شاهد عيان.
تُسجّل، لكنها أيضًا تتهم.
كم من صحفي فقد عينه لأنه صوّر مجزرة؟
وكم من صحفية اعتُقلت لأنها كشفت وجعًا نسويًّا في مجتمعاتنا المغلقة؟
الصحفي الناجح لا يخاف أن يُخرج الكاميرا حيث يُمنع التصوير.
ولا يخشى أن يخرج الكلمة حيث يُمنع النطق.
  •  الصحفي الناجح وحده… دائمًا وحده
كم مرّة شعرت أنني أصرخ في برية؟
أنني أكتب ولا أحد يسمع؟
أنني أنشر تقريرًا استقصائيًا، فيُردّ عليّ بتهمة “تشويه الصورة الوطنية”؟
الصحفي الناجح، للأسف، يعيش غريبًا في بيته المهني، وأحيانًا منبوذًا في بلده، ومراقَبًا من “زملائه”.
لكنه مع ذلك، لا يصمت.
لأنه يعرف أن “السكوت أحيانًا جريمة”.
  •  الصحفي الناجح لا ينتمي إلا للحقيقة
قد يكون فلسطينيًا، لبنانيًا، سوريًا، تونسيًا…
لكنه لا ينتمي لجنسية، بل لقضية.
هو ابن الحقيقة، لا ابن النظام.
ولذلك يتم استبعاده من الجوائز، من الترقيات، من المنصات.
لكنّه، رغم كل ذلك، يُخلَّد.
وتبقى كلماته حيّة، تفضح وتُوقظ وتُلهم.
  •  ختامًا: إلى كل صحفي ناجح… أنت لست وحدك
نحن قليلون. نعم.
لكننا موجودون.
نكتب، رغم الطرد والتهديد والملاحقة.
نحاول، رغم اليأس.
نحلم، رغم أن كل شيء يقول لنا: لا فائدة.
لكننا نعرف أن الصحافة ليست مهنة.
هي شكل من أشكال الحياة،
هي رسالة، وصرخة،
هي نارٌ لا تُطفأ.
  •  رانية مرجية
كاتبة وصحفية فلسطينية من الرملة، تقف على الحافة بين الصمت والانفجار، وتحوّل وجعها اليومي إلى بيان حرية.