كنوز نت - بقلم الكاتب الفنان : سليم السعدي


نكبة الممتدة: من الانتداب البريطاني إلى الهيمنة الأمريكية
بقلم الكاتب الفنان : سليم السعدي
لم تكن نكبة الشعب الفلسطيني لحظة عابرة في التاريخ، بل كانت تتويجًا لمسار استعماري ممنهج، بدأ مع الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917، واستمر حتى يومنا هذا بصور وأدوات جديدة، أبرزها الرعاية الأمريكية المطلقة للمشروع الصهيوني. وبين هذين القطبين – البريطاني والأمريكي – تواصلت مأساة الفلسطيني، لا بوصفه ضحية لصراع محلي، بل كهدف مباشر لمخطط استيطاني إحلالي تقوده قوى الغرب الاستعماري منذ قرن. 
بريطانيا: بداية الجريمة المقننة
منذ اللحظة التي دخلت فيها القوات البريطانية فلسطين إبان الحرب العالمية الأولى، كان واضحًا أن هذه الأرض لن تُعامل ككيان مستقل أو كأمة لها حق تقرير المصير، بل كمستعمرة يجب هندسة مستقبلها بما يخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية والمشروع الصهيوني الصاعد. فجاء وعد بلفور عام 1917 ليفضح هذه النوايا، بإعلان دعم "وطن قومي لليهود" في أرض مأهولة بأهلها الفلسطينيين.
الانتداب البريطاني لم يكن سوى مظلة سياسية وعسكرية لتهجير الفلسطينيين تدريجيًا وتمكين الحركة الصهيونية من بناء بنية تحتية متقدمة، بما في ذلك مؤسسات مالية وعسكرية، سُمح لها بالازدهار في حين تم قمع التنظيمات الوطنية الفلسطينية وحرمانها من الحقوق الأساسية. 
الانسحاب البريطاني: تسليم بالمفتاح
حين قررت بريطانيا الانسحاب من فلسطين عام 1948، لم يكن ذلك تخليًا عن المسؤولية، بل كان انسحابًا تكتيكيًا لصالح قوة بديلة ستواصل تنفيذ نفس المشروع بوسائل جديدة: الولايات المتحدة الأمريكية. لقد سلّمت بريطانيا ملف "فلسطين" للعالم الغربي، وهي تدرك تمامًا أن ما زرعته من بنى استيطانية وأسلحة وتنظيمات، سيتكفل بإنجاز ما تبقى من "الخطة"
أمريكا: الوجه الأحدث لنفس الاستعمار

الولايات المتحدة، التي نشأت أصلًا على أنقاض الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية، كانت بطبيعتها مستعدة لتبنّي النموذج الصهيوني في فلسطين. مشروع يستوطن أرضًا "بلا شعب" (كما زعموا)، ويحيل سكانها الأصليين إلى لاجئين ومهمّشين، تمامًا كما فعلت أمريكا مع الهنود الحمر. 
مع مرور الوقت، لم تكتفِ أمريكا بالدعم الدبلوماسي لـ “إسرائيل"، بل أصبحت المورد الأول للأسلحة، والداعم الأبرز في المحافل الدولية، والمزوّد السياسي الذي يجهض كل محاولة لمحاسبة الاحتلال على جرائمه. ومن خلال الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي، باتت أمريكا شريكًا مباشرًا في كل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من قتل وتهجير وتجويع وطمس للهوية. 
غطاء دولي وازدواجية أخلاقية
المأساة الفلسطينية لم تكن لتستمر لولا هذا الغطاء الدولي، الذي تقوده واشنطن، ويستند إلى مؤسسات دولية تم اختطافها وتحويلها إلى أدوات لشرعنة الظلم بدلًا من وقفه. فبينما تُرفع الشعارات عن حقوق الإنسان و"النظام الدولي القائم على القوانين"، يُذبح الفلسطيني على الهواء مباشرة، ويُطلب منه أن يصمت ويعترف بشرعية قاتله. 
هذه الازدواجية الأخلاقية ليست عرضًا جانبيًا، بل جزء من منظومة الهيمنة الغربية التي تعيد إنتاج الاستعمار بأشكال جديدة، عبر أدوات مثل "الفيتو" و"التمويل المشروط" و"اتفاقيات السلام" التي تهدف لتصفية الحقوق لا تثبيتها  
الدجال السياسي الحديث
حين نتحدث عن الولايات المتحدة كقوة استعمارية حديثة، فإننا لا نبالغ حين نصفها بأنها مصدر الخراب السياسي لكثير من الشعوب، بما في ذلك فلسطين. إذ أنها تروّج للديمقراطية وتدعم الطغيان، تتحدث عن السلام بينما تموّل الحروب، وتُصدر شعارات الحرية بينما تسجن شعوبًا بأكملها في مخيمات و"مناطق أ" و"ب" و"ج"
ومن رحم هذا التناقض، يمكن فهم كيف تحوّلت أمريكا إلى راعٍ للنظام العالمي الحالي الذي يسمح بقتل الفلسطيني دون حساب، ويفرض على الضحية أن يقبّل يد قاتله تحت اسم "التطبيع" أو "صفقة القرن" أو "وقف التحريض"
خاتمة: من يفكك الاستعمار؟
ليس الاحتلال الإسرائيلي سوى أداة تنفيذ لمشروع أكبر. وفهم النكبة على أنها نتاج الاستعمار الغربي، لا مجرد صراع محلي، هو بداية الوعي التحرري الحقيقي. إن تحميل بريطانيا مسؤوليتها التاريخية، ومحاسبة أمريكا على شراكتها المباشرة، لا يعني الاكتفاء بلعن الماضي، بل العمل على تفكيك منظومته في الحاضر.
وحده الشعب الفلسطيني، ومعه شعوب العالم الحر، قادرون على قلب المعادلة، لا بالاستجداء، بل بالمقاومة الفكرية والسياسية والميدانية. فكما كانت فلسطين الضحية النموذجية للاستعمار، يمكنها أن تكون أيضًا شرارة نهاية هذا النظام الظالم إذا ما اجتمعت الإرادات الحرة على ذلك