كنوز نت - رانية مرجية


كريم شداد… حارس الذاكرة وناسج الحكايات المنسيّة
رانية مرجية

في زمنٍ تذوي فيه التفاصيل، ويتحوّل التاريخ إلى مجرد شعارات وشخوص على أرصفة النسيان، ينهض رجال بهدوء الكبار، يلتقطون خيوط الضوء الباهتة، وينسجون منها عباءة لذاكرة مجتمعاتهم. من هؤلاء، يبرز اسم كريم شداد، الرجل الذي لم يشتهِ صخب الواجهة، بل آثر أن يكون صوتًا للوجوه الظليلة، وأرشيفًا حيًا للمنسيّين في مدينة الناصرة، تلك المدينة التي تسكن الجغرافيا كما تسكن التاريخ.

ابن النكبة… وابن المدينة

كريم شداد، ابن الناصرة العتيقة، وُلد عام النكبة، عام 1948، لكنه اختار أن يكون شاهدًا حيًا على الولادة لا على الانكسار. شقّ طريقه بعيدًا عن الأضواء، أولًا في العمل المصرفي، إذ تولّى إدارة فرع بنك مركنتيل في الناصرة لسنوات طويلة، وهناك، بين حسابات الزبائن وأرقام الاقتصاد، حفظ تفاصيل الناس وأوجاعهم وأحلامهم، دون أن يدري ربما، أنه كان يرسم بدايات مشروعه الثقافي والإنساني الأعظم: أرشفة الذاكرة الحيّة.

من المصرف إلى الحبر

قلّما نرى مصرفيًا يتحوّل إلى مؤرخ اجتماعي. لكن شداد، كعادته، لا يخضع للنمط. بعد تقاعده من العمل المصرفي، لم يرتح. بل شرع في تقليب دفاتر الزمن، واختار أن يوثّق ما لم توثقه كتب التاريخ الرسمية: سيرة بشر، عاديين ظاهريًا، لكن استثنائيين في عطائهم. وفي كتابه الفريد “شخصيات من بلدي – عطاء وانتماء”، كتب شداد عن وجوه رحلت دون أن تُذكر، عن معلمين، حرفيين، موسيقيين، مربيات، رياضيين، وأمهات نحتوا صمتهم في جدران البيوت.

ما فعله شداد في هذا الكتاب لا يمكن وصفه فقط بأنه توثيق، بل هو إحياء لذاكرة جمعية شفهية كادت أن تُمحى. لقد منح الكلمة لأولئك الذين لم تكتب عنهم الصحف، ولم تتغنّ بهم المنصات. كتبهم كما هم، دون رتوش، بحب عميق، بلغة متزنة، مشحونة بالعاطفة، لكنها لا تسقط في التهويل أو التسطيح.

منتدى الناصرة الثقافي: مشروع القلب والذاكرة

لم يكتفِ كريم شداد بالكلمة المكتوبة، بل حوّل إيمانه بالفعل الثقافي إلى مبادرة مجتمعية حيّة، فكان المؤسس والرئيس لمنتدى الناصرة الثقافي، الذي تحوّل إلى حاضنة فكرية مفتوحة تحتضن الأدباء والفنانين والباحثين من مختلف الأجيال والانتماءات. هذا المنتدى ليس مجرد مؤسسة، بل فضاء للحوار الثقافي، ولتثبيت الهوية من خلال الذاكرة والوعي.


تحت مظلته، أُقيمت الندوات، وتلاقت الأقلام، وتقاطعت السير. وهكذا واصل شداد حياكة النسيج الثقافي للمدينة، بصبر ناسج حكايات يعرف أن القصة لا تموت ما دامت تُروى.

المثقف العضوي الصامت

كريم شداد لا يُشبه النمط السائد للمثقفين في عصر الفيسبوك، لم يثر صخبًا، لم يروّج لنفسه، لم يتبنَّ شعارات شعبوية أو نرجسية أدبية. بل هو “المثقف العضوي” بتعبير غرامشي، أي الذي يشتغل بصمت من داخل النسيج الاجتماعي، يُنصت أكثر مما يتكلم، يكتب لا ليُعجب، بل ليحفظ، يروّض الحبر ليكون مرآة للناس لا منصة للذات.

ولعلّ أجمل ما في تجربة شداد، أنه تعامل مع الكتابة كخدمة اجتماعية، لا كبطاقة عبور نحو الشهرة. هو يرى في كل إنسان قصة تستحق أن تُروى، وكل حارة فيها شاعر مغمور، وكل مدرسة خرجت أجيالًا من المنارات الصامتة.

بين الحنين والوعي

شداد لا يكتب بدافع الحنين فقط، بل بدافع الوعي العميق. وكتاباته ليست بكائية على الماضي، بل هي دعوة للنظر إليه بوصفه جزءًا من وعينا الجمعي، من هويتنا التي تتآكل بين احتلال خارجي واستلاب داخلي. هو يلتقط الزمن لا ليبكيه، بل ليعيد إليه صوته، وجهه، وظله.

هو الذي آمن أن من لا يكتب ذاكرته، يُكتب عنه بيد الآخرين. ومن لا يحتفظ بحكايته، يُروى دائمًا من موقع المفعول به. شداد، في كل حرف، ينتصر للفاعل الفلسطيني، للإنسان البسيط، للبطولة اليومية التي لا يراها الإعلام.

في الختام

كريم شداد ليس مجرد كاتب سِيَر محلية، ولا مجرد إداري ناجح في مصرف أو مؤسسة ثقافية، بل هو أيقونة صامتة من أيقونات الداخل الفلسطيني، رجل اختار أن يكون ظلًا للذاكرة، لا ظلًا للشهرة.

وفي زمن نُعلي فيه الضجيج ونُهمّش الفعل العميق، يعلّمنا شداد أن الحفاظ على الناس، على قصصهم، على وجوههم، هو فعل مقاومة، وكتابة تشبه الصلاة.

سلامٌ على رجلٍ أحب مدينته كما يحب المرء أمّه، فكتبها، سكنها، وخطّ في ذاكرتها ملحمة من الضوء