كنوز نت - بقلم: سليم السعدي


النكبة... حين يُطرد شعبٌ من اسمه وتُجتث الذاكرة من التراب

  • بقلم: سليم السعدي
في الخامس عشر من أيار/مايو من كل عام، يقف الفلسطيني أمام نفسه، لا ليبكي، بل ليسترجع ذاكرة وطن طُرد منه قسرًا. ليست النكبة الفلسطينية حدثًا وقع في 1948 ثم انقضى، بل هي فصل تأسيسي لما بات لاحقًا واقعًا عالميًا صامتًا على أطول كارثة لجوء في العصر الحديث. إنها لحظة أُقصي فيها شعب بأكمله من اسمه، ومن حقه في الأرض، ومن ذاكرته المكتوبة بالحياة.
ما هي النكبة؟
النكبة، بحسب التوصيف التاريخي الدقيق، هي التهجير القسري الجماعي الذي تعرّض له أكثر من 750,000 فلسطيني من أراضيهم ومنازلهم خلال الحرب العربية-الإسرائيلية في عام 1948، التي أعقبت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، والذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية.
ولكن ما حصل على الأرض كان بعيدًا عن هذا "التقسيم" المتوازن، إذ سيطرت الحركة الصهيونية على أكثر من 78% من مساحة فلسطين التاريخية، ودمّرت ما يزيد عن 500 بلدة وقرية فلسطينية، وفق ما وثّقه المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي في كتابه المرجعي "كي لا ننسى". عشرات المجازر نُفذت بحق المدنيين الفلسطينيين، أبرزها مجزرة دير ياسين في نيسان/أبريل 1948، التي قُتل فيها نحو 250 من النساء والأطفال بدم بارد، في محاولة لنشر الرعب ودفع السكان إلى الفرار.
النكبة المستمرة

خلافًا لما يعتقده البعض، النكبة ليست مجرد صفحة قديمة. إنها مستمرة، بنسخ متجددة، حيث يعيش اليوم أكثر من 6 ملايين لاجئ فلسطيني مسجل لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، لا يزالون محرومين من حقهم بالعودة رغم أن القرار الأممي 194 الصادر عام 1948 ينص صراحة على وجوب عودة اللاجئين إلى ديارهم "في أقرب وقت ممكن".
أين هؤلاء الآن؟ في مخيمات الشتات بلبنان وسوريا والأردن، وفي غزة المحاصرة، وفي القدس التي تُطوّق يوميًا بجدران العزل والاستيطان. النكبة لم تكن فقط خلعًا من الجغرافيا، بل من التاريخ أيضًا، حيث سعت الحركة الصهيونية منذ اللحظة الأولى إلى "إعادة تسمية" القرى الفلسطينية المدمّرة بأسماء عبرية – في محاولة لمحو أي أثر يدل على أن هذه الأرض كانت مأهولة بشعب حيّ قبل 1948.
النكبة في الرواية الإسرائيلية: صمت وإنكار
في الرواية الإسرائيلية الرسمية، لا وجود لـ"نكبة"، بل "حرب استقلال". غير أن هذا الإنكار بدأ يتصدع مع بروز ما يُعرف بـ"المؤرخين الجدد" داخل إسرائيل في التسعينات، مثل إيلان بابيه الذي وصف ما جرى عام 1948 بأنه "تطهير عرقي مخطط"، مستندًا إلى وثائق أرشيفية تثبت أن تهجير الفلسطينيين لم يكن نتيجة حرب، بل سياسة ممنهجة وموثقة ضمن خطة أُطلق عليها اسم "خطة دالت".
ما بين الحق والصمت: سؤال الضمير العالمي
لقد خُلق الشعب الفلسطيني من النكبة من جديد، لكن ليس كضحية فقط، بل كفاعل حضاري يحمل قضيته معه إلى كل مكان. من مخيمات لبنان إلى ساحات برلين ونيويورك، تحولت مفاتيح البيوت التي حملها الأجداد إلى رموز للحق الثابت، وأصبحت جداريات العودة في شوارع نابلس وغزة صرخات فنية لا تنكسر.
النكبة لم تنتهِ. والضمير الإنساني الحقيقي لا يمكنه أن يتجاهل حقيقة موثقة بقرارات أممية، وبصور الأقمار الصناعية، وبالقصص التي لم تنقطع. فبين عامي 2006 و2023 وحدها، هُدم أكثر من 7,000 منزل فلسطيني في الضفة الغربية والقدس، بحسب تقارير منظمة "بتسيلم"، كوجهٍ جديد من أوجه النكبة المستمرة.
الخاتمة: النكبة كوعي دائم لا يُهزَم
إن الحديث عن النكبة ليس اجترارًا للحزن، بل هو استعادة للعدالة. إن الشعوب التي تُجبر على النسيان هي الشعوب التي تموت مرتين. أما الشعب الفلسطيني، فقد اختار الذاكرة كسلاح، والوجود كثبات، والرواية كوثيقة بقاء.
لقد طُردنا من الاسم، لكننا عدنا إلى الحروف. هُجّرنا من البيوت، لكننا سكنا القصيدة والحكاية والحنين. وها نحن، بعد 76 عامًا، نقف لنقول: لن تُمحى القرى من وجداننا، ولن تُختصر فلسطين بخارطة. فالنكبة ليست النهاية، بل دليل على أن البداية سُرقت، لكنها لم تُنسَ.