كنوز نت - الطيبة - بقلم : سامي مدني


  • خِصالٌ فِي الرِّجالِ، تُخَلِّدُهُم وَتُحَبِّبُ ذِكْراهُمْ أللهُ فَيَنْظُرُ لِقُلِوبِهم وأفْعالِهم



بسْمِ اللهِ والحَمدُ للهِ وإنَّا للهِ القاهِرِ العَادِلِ الصَادِقِ الأحدِ الصَّمَدِ! 
السَّلامُ عَليكُمْ إِخْوتِي! ..... عِبادُ اللهِ المُؤْمِنينَ العامِلينَ بالصَّالِحاتِ.


أَمَّا بَعْدُ...، إخْوَتِي بِاللهِ، ...اليَوْمَ وكُلَّ يَوْمٍ نَعِيشُ واجِبٌ عَلَيْنا أَنْ نَتَمَسَّكَ بِالمَبادِيءِ والقِيَمِ النَّفِيساتِ، الَّتي رَضَعْناها وَنَهَلْناها مِنْ ثَدْي أُمَّهاتِنا، وَهِيَ أخْلاقٌ وَسِيماتٌ وَمِيزاتٌ عَظِيمَةٌ، يَجِبُ تَبَنِيَها والعَمَلَ بِها وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ، فَإنَّها قَوانينٌ أشْبَعَتْنا أُمَّهاتُنا بِحَلِيبِها لِنُصبِحَ أَصْحابَ قَرارٍ وَفينا الدَّوافِعُ وَالمُحَفِّزاتُ الداخِليَّةٌ صَلْبَةٌ، تُزيِّنُ أفْكارَنا بِنَهْجٍ يُهَيِّئُنا لِنُمسِ رِجَالاً شُجْعاناً، والتَّعَقُلُ وَالإتِّزانُ وَالمُرُوءَةُ وَالعَقْلانِيَّةُ مُحَرِّكُنا، وَفِي خانَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ التَهَوُّرِ وَالخَنُوعِ وَالخُذْلانِ.

 أَيُّها القَومُ الكَريمُ! .... أُجْزِمُ لَكُمْ أنَّ دَرَاسَتَنا لِهَذِهِ الخُلُقِ وإتِّباعَها، تُكْشِفُ لَنا مِيزاتٍ رائعَةً لا تَلتَقي مَعَ نَقيضِها في شَخْصٍ واحِدٍ، فَفِي الحَديثِ حَوْلَ الشَّجاعَةِ وَهِيَ شَيْءٌ، والتَهُّورِ شَيْءٌ أخَرٌ سَنَكْتَشفُ أمْرَيْنِ مُخْتَلِفَين؛.... الشجاعةُ خِصالٌ مَعْروفَةٌ في أُناسٍ مُدِحُوا وآتَّسَمُوا بِها وتَسَلَّحُوا بأخْلاقٍ سَليمَةٍ حَتَّى أصْبَحَ قِسْمٌ مِنْهُمْ مَشْهُورَاً، وَذِكْرُهُم مَحْبُوباً، والحَديثُ عَنْهُمْ مُمْتِعً، وأخَرونُ فِيهِمْ التَهَوُّرُ والجُبَنُ وَ .... لأجْلِها يُذَمُّونَ وَيُعرَفُون بأمورٍ مُغايِرةٍ شَتَّان بَيْنَها وبَيْنَ الشَّجاعَةِ، .... والأَمْثالُ كَثيرَةٌ.


وَالشَّجاعَةُ الحَقِيقِيَّةُ أعِزَّائي! ليْسَتْ مَشْرُوطَةً إِلاَّ بِرُوحِ التَضْحِيَةِ، وَلا تَكُونُ مَبْنِيةً على قُوْةِ العَضَلاتِ فَحَسْب، لَكِنْ بِغَيْرِهِم يَكُونُ التَهَوُّرُ كَذَلِكَ، الَّذي هُوَ غَريبً عَنْ شِيَمِهِم لأنهمْ عاقِلون مُدْرِكُون وَعِنْدَهمْ الوَعْيُّ الكافِي والإتِّزانُ بِخُطُواتِهِمْ المَدْرُوسَةِ والقابِلَةِ للْتَنْفيذِ، ثُمَّ لَا يَرْمُون أَنْفُسَهُم الى التَّهْلُكَةِ؛ ودائِماً ما يَصْدُقُون، أَمَّا التَهَوُّرُ وَالإِنْدِفاعُ والَّذي هُوَ ناجِمٌ عَنْ فُقْدانِ التَصَرُّفِ المَنْطِقِيِّ لَدَى الأَخَرينَ، يَكُونُ أصحَابُهُ سَريعين بالرُدُودِ وَبالأَفْعالِ، ينْفَعِلُوا مِنْ أَدْنى المُحَفِّزاتِ والأَسْبابِ، دُونَ أخَذٍ بالعَواقِبِ قَيْدَ أُنْمِلَةٍ، فَيَكونُون أُنَاسً مُشَكِّكين لا يَثِقُونَ بِأَحَدٍ، وَلِكلِّ مِنْهُم سَهْلاً لِيُدْخِلَ نَفْسَهُ بِمَتاهاتٍ هُوَ بِغِنَى عَنْها وليْسَ لَها لُزُومٌ، وهَذا مَا يَجْعَلُهُ مَبْغْوضً وَخَصْمً مَلْعُونً وَمِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَيَفْشَلُ حَتَّى في عَلاقاتِهِ الإجْتِماعِيَّةِ.

إنَّ الأَخْلاقَ هذهِ قَلَّ مَا تَجْتَمِعُ مَعَ الشَّجاعَةِ المَبْنِيَةِ على الحِكْمَةِ والثِّقَةِ بالنَّفْسِ والتَّجْرُبَةِ والخِبْرَةِ، إِضافَةً إلى الحِنْكَةِ والقُدُراتِ الجَسَدِيَّةِ والتَحَرُكِ بِشَكلٍ سَليمٍ عِنْدَ مُواجَهَةِ الأُمورِ، فَالمُتَهَوِّرُ يَخْطُ بِشَكلٍ عَشْوائِي بِغَيرِ إِدْراكٍ، وإِذا كانَ الأمرُ هَذا عِنْدَهُ مُرتَبِطً بِعامِلِ الشَّجاعَةِ، فَهِي لا تُقاسُ بِقَدَرِ مَا عِنْدَ الإِنْسانِ الرَّزِينِ الشُّجاعِ، وقَدْ تَضُرُّهُ وتَضُرُّ غَيْرَهُ إلاَّ إِذا حَكَّمَ عَقْلَهُ، وهَذا أَمْرٌ غَيْرَ مَأْلُوفً وَمُستَهجَنً عَلَيهِ.

إِنَّ الشَّجاعَةَ هِيَ مُحَفِزٌ وَطاقَةٌ عِنْدَ الإِنْسانِ المِقْدامِ الباسِلِِ الجَريءِ، الَّذي لا يَهابُ المَوْتَ ولا يَسْجُدُ ولاَ يَنْحَنِي إِلاَّ للهِ، هوَ مَنْ لا يَخافُ البَشَرَ وإِذا سَمِعَ نِداءَ المُسْتَغِيثِ، هَبَّ وحَمَلَ رآيَةَ العَدْلِ بِكُلِ عَزْمٍ وَمَرُوءَةٍ وإِصْرارٍ، وَهوَ مِنْ لا يُفَكِّرُ إِلاَّ بالهَدَفِ الَّذي لا يُحَقَّقُ ولا يُبانُ إِلاَّ بالإِرادَةِ وَالأَفْعالِ العادِلَةِ، حَتَّى ولوْ كانَ صِراخُ المُسْتَنْجِدِ آتٍ مِنْ بَعْدِ الجِبالِ، لا يَتكَاسَلُ ولا يَتَعامَى ويَستَعِدُّ وَيعِدُ العُدَّةَ ويَجْمَعُ الحُشُودَ والمُؤَيِّدينَ لِنُصْرَةِ المَظْلُومِ المُستغيثِ.

والتَّارِيخُ والحَاضِرُ يَشْهَدَان لِكَثيرٍ مِنَ النَّاسِ الشُّجْعانِ الَّذينَ أَصْبَحُوا لِبسالَتِهِمْ مَشهورين تُضْرَبُ الأمثالُ بهمْ، فَإِذا صَمَّمُوا على شَيْءٍ لَمْ تَتَحَدَّاهُمْ العَواصِفُ الهَوْجاءِ، لأَنَّهُم سَيَهْزِمُونَ ثُمَّ لا يُخِيِّبُون أَمَالَ أَحَدٍ، وَيُنفِّذُونَ مَا وعَدُوا في ساحاتِ العَمَلِ وَالقَرارِ والقِتالِ، ولَكُمْ أَشْهَرُ َالقِصَصِ بالخَلِيفَةِ المُعُتَصِمِ بِاللهِ:
 في عَهْدِ الدَّولةِ العَبَّاسِيَّةِ كانَ مِنْ بَيْنِ النِّساءِ اللَّاتي أسَرَهُنَّ الرُّومُ فَتاةٌ جَميلَةً جِدَاً، تَمَّ حَمْلُها كَغَيرِها مِنَ النِّساءِ إلى سُوقِ العَبيدِ وَنادى المُنادِي لِيَبيعَها، فَأُعْجِبَ بِها أَحَدُ رِجالِ الرُّومِ وَقَرَّرَ أَنْ يِشْتَريَها مِنْ المُنادِي وَدَفَعَ ثَمَنَها وَمَسَكَها مِنْ يَدِها لِيأخُذَها مَعَهُ وَلَكِنَّ الدُّمُوعَ مَلأَتْ عَيْنَيْها ، وأخَذَتْ تَصرُخُ بِشِدَّةٍ وحُرْقَةٍ وَكانَ صَدَا صَوْتِها العالي يَهِزُّ الجِبالَ، الَّذِي لَفَتَ أنْظارَ الجَمِيعِ وهِيَّ تَقُولُ وَامُعْتَصِماهُ ....... وَامُعْتَصِماهُ ..

وَلِحُسنِ حَظِّها جَاءَ لِيَرى المَأْسأةَ هَذِهِ رَجُلٌ عَربِيٌّ مُتَنَكِّرٌ، فَرَكبَ فَرسَهُ مُتَّجِهَاً بِسُرعَةٍ شَديدَةٍ إلى بَغدادِ وَحَكَى للخَليفَةِ مَا رَأتْهُ عَيْناهُ وكَيْفَ كانَ حَالُ الفَتاةِ .....، وبَعْدَ أَنْ اسْتَمعَ المُعتَصِمُ بِاللهِ الخَليفَةُ إلى الفَتَى، ثارَ غَضَبَهُ إسْتَدعَى رَسُولاً مِنْ بَلاطِهِ لِيُرسِلَ مَعَهُ رِسالَةً إلى أميرِ عَمُّورْيةِ وَقَالَ لَهُ فيها كَلِماتٍ قاسِيَةٍ لِلْغايَةِ: "مِنْ أميرِ المُؤمِنينَ إلى كَلْبِ الرُّومِ، أخْرِجْ المَرأةَ مِنَ السِجْنِ وإِلاَّ أتَيتُكَ بِجَيشٍ بِدايَتُهُ عِنْدَكَ وَنِهايَتُهُ عِنْدِي"، لكنَّ الأَميرَ الرُّومِي لَمْ يَستَجِبْ، فآنْطَلقَ المُعتَصِمُ بِجَيشِهِ لِيَستَعدََ لِمُحاصَرَةِ عَمُّوريَة، فَمضَى بِشجاعَةٍ وَيَقينٍ إليْها وَآحْتَلَّها وأعادَ للمَرأةِ وأهلِ عَمُّورية كَرامَتَهُمْ، فَعَمِلَ كَما يَلِيقُ بِرَجُلٍ إِذا تَكلَّمَ صَدَقَ وَعَرفَ مَا يَقُولَ، وإِذا همَّ نَفَّذَ، فأيْنَ مُلُوكُنا وَزَعَامَاتُنا! وَلِماذا هُمْ يَسْبَحُون بالأوهامِ ... وَما يُفِيدُهُم مِنَ الخُنُوعِ وَالجُبْنِ وَحُبِّ الدُّنْيا وَطأْطأَةِ الرُّؤُوسِ! وَهَلْ عِنْدَهُم أَصْلاً كَرامَةٌ! أَمْ نَسُوها إِطْلاقَاً! فَكَيفَ يُعِيدُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ بِهِ لأُمَمِهِمْ!

جَعَلَنا اللهُ مِمَنْ بِيَدِهِمْ الحِيلَةَ، فَيَغِيثُ رِجالٌ عظماءٌ المُسْتَنْجِدين بِهِمْ، وَنُعيدُ الكَرامَةَ والشهَّامَةَ والمُرُوءَةَ وَالعِزَّةَ لأَهْلِها!
السَّلامُ عَليكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وبَرَكاتُهُ!