
كنوز نت - بقلم رانية مرجية
«فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»
بقلم رانية مرجية
في كل مرة يتصدّع فيها العالم تحت وطأة الألم، تعود هذه الآية لتنهض كالدهشة الأولى:
﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا • إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾.
كأنها وُضعت تحديدًا لهذا الزمن الذي صار العسر فيه هويةً يومية للكوكب بأكمله، لا حادثًا عابرًا في حياة فرد أو شعب.
لقد باتت الكرة الأرضية نفسها تبدو كروحٍ مثخنة، تنتقل من أزمة إلى أخرى كما ينتقل مريض بين غرف الطوارئ.
حروب تنزف على الخرائط، أوبئة تعلّق الهواء بين الشهيق والزفير، اقتصاديات تتداعى، ومجتمعاتٌ تفقد القدرة على التنبؤ بالغد.
إنه زمنٌ يفيض بالقلق حتى كأن القلق صار مياهه الإقليمية.
ومع ذلك — وفي قلب هذا الظلام الذي يتراكم كثقلٍ على صدور البشر — تتقدّم الآية بخطواتٍ ثابتة، غير مرتعشة، كما لو أنها تحمل شهادة ميلاد اليسر في كل عسر، شهادةٌ قديمة قدم الإنسانية نفسها.
هذه ليست كلمات للتعزية السطحية، بل قانون كونيّ يعيد ترتيب الفوضى ويذكّرنا بأنّ الألم، مهما بدا مطلقًا، ليس قدرًا نهائيًا.
لقد تغيّر شكل العسر في زمننا:
لم يعد مجرّد ضيقٍ اقتصادي، أو فقدٍ شخصي، أو حربٍ في رقعة جغرافية.
صار هندسة عالمية تتشكّل من الخوف، وفقدان اليقين، وتلاشي المعنى.
صار العسر سؤالًا وجوديًا:
كيف يستمر الإنسان في حمل ذاته والكون ينكمش حوله؟
ومع ذلك، فاليسر أيضًا تغيّر.
لم يعد يُقاس بانفراج سياسي أو رخاء اقتصادي.
لقد أصبح اليسر فعل مقاومة:
مقاومة اليأس، مقاومة الانهيار الداخلي، مقاومة تحويل إنسانيتنا إلى حطام سريع الاستجابة للخبر العاجل.
إن اليسر اليوم قد يكون تلك القدرة الهشّة — لكن العظيمة — على الاستمرار:
أن نصنع معنىً جديدًا بعد كل فقد،
أن نتعلّم لغة الصبر بدل لغة الانكسار،
أن نشارك رغيفًا رغم القلّة،
أن نحافظ على القدرة على الحلم حتى في بيئةٍ خانقة.
الآية لا تعدنا بيسرٍ بديل عن العسر، بل بيسر مرافق له.
وهذا التفصيل — الذي يتكرر مرتين — ليس تكرارًا، بل تأكيدٌ على أنّ الإنسان لا يعيش فصلًا مظلمًا محضًا؛ بل يعيش طبقات من التجربة، في كل طبقة ظلٌّ ونور، وجمرٌ وماء، وعسرٌ ينبت داخله شيء يشبه اليسر ولو كان ضئيلًا، ولو بدا غير مرئي.
لذلك، في عالمٍ يبدو معلقًا على حافة الهاوية، تصبح هذه الآية ليست مجرد عزاء ديني، بل رؤية فلسفية عميقة:
أنّ التاريخ البشري كله هو حوارٌ دائم بين العسر واليسر، بين الفقد والخلق، بين الانهيار والقدرة المدهشة على النهوض.
ففي كل مرة ظنّت فيها الإنسانية أنها وصلت إلى نهايتها، كانت تكتشف أن تحت الأنقاض بذورًا صغيرة لحياةٍ جديدة.
وفي كل مرة أغلقت الأبواب، انفتح بابٌ لم يكن في الحسبان.
هذا قانون، وليس أمنية.
واليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، نحن بحاجة إلى أن نعيد قراءة الآية لا كجملة محفوظة، بل كخارطة طريق:
خارطة تخبرنا أن الإنسان أقوى مما يجري حوله،
وأن العالم رغم قسوته، ما زال يحتفظ بجيوب صغيرة للرحمة،
وأن المستقبل — مهما أخافنا — ليس مظلمًا بالكامل، ولا مضيئًا بالكامل، بل قابلٌ للترميم… بشروط:
أن نتمسك بالإنسان الذي في داخلنا،
وأن نتمسك بقدرتنا على رؤية اليسر حتى لو كنا نعيش في مركز العسر.
ذلك أن الإيمان الحقيقي لا يُقاس بغياب العسر،
بل بقدرتنا على تصديق اليسر… ونحن في قلب العاصفة
19/11/2025 07:23 am 35
.jpg)
.jpg)