
كنوز نت - بقلم: سليم السعدي
صرخة جياع محاصرين… لوحة تفضح عالمًا ينهار أخلاقيًا
بقلم: سليم السعدي
في لحظة كثيفة الألم، يخرج فنان بريشته ليصرخ نيابة عن الجياع المحاصرين، فيحوّل اللوحة إلى وثيقة إنسانية أكثر بلاغة من الخطابات، وأكثر صدقًا من الاجتماعات التي تزخرفها الشعارات. لوحة واحدة تكفي لفضح عالم فقد صوابه، وانسلخت عنه النخوة، واستقالت منه الكرامة.
فالعالم الذي يفاخر بمنجزاته الحضارية، ويُغرقنا بحديثه عن الديمقراطية وحقوق الطفل والمرأة والإنسان… هو ذاته العالم الذي يصمت أمام مشاهد الحصار والجوع والقتل. تتساقط شعاراته مثل أوراق الخريف، لا لون لها ولا حياة. تسقط ورقة “العدالة”، وورقة “المساواة”، وورقة “حقوق الإنسان”، وتبقى الحقيقة عارية لا يكسوها شيء.
لقد لبست هذه الحضارة أوراقًا تتستر بها، تمامًا كما في الحكاية القديمة: أوراق تخفي العيوب، وتغطي العورات الأخلاقية، وتمنح أصحابها حسًّا زائفًا بالتفوق والشرعية. مشوا على أربع قوائم من القيم المعلنة: ديمقراطية، مساواة، حماية الضعفاء، ورعاية الحياة. لكن حين اقترب الامتحان الحقيقي، كشفت اللوحة كل شيء؛ انزلقت الأوراق، وتعرّى الخطاب، وانكشف المبنى الذي يرتكز على ادّعاء الفضيلة دون ممارسة لها.
وعندما سُئل هذا العالم:
هل أكلتم من شجرة المعرفة التي في وسط الجنة؟
كان جوابه تحميل المظلومين المسؤولية، ووسم المحاصرين بأنهم “مخرّبون”، ونزع إنسانيتهم، وكأن قتلهم أو تجويعهم جزء من “حماية النظام” أو “حفظ الأمن”.
وهكذا تحوّلت المعرفة إلى ذريعة، والقانون إلى مطرقة، والعدالة إلى خطاب فارغ. لم تعد المعايير واحدة، ولم تعد حياة الإنسان قيمة بحد ذاتها، بل صارت خاضعة لحسابات القوة والنفوذ، تعلو حين يشاء الأقوياء، وتسقط حين يشاء أصحاب المصالح.
إنّ ما تقوله هذه اللوحة، في رمزية بسيطة وعميقة، هو أن العالم الذي يحتكر الأخلاق، ويحدّثنا عن “تفوقه القيمي”، هو ذاته الذي ينتهك أبسط حقوق الحياة حين يكون الضحية ضعيفًا أو غير مرغوب فيه. وحين يكشفه الواقع، يلوذ بالإنكار:
“لا نعرفهم… إنهم هم المذنبون.”
لكن الحقيقة لا تُخفى، وصوت الجائع لا يُسكَت، وصورة الطفل المحاصر أقوى من كل جيوش التبرير.
إن التاريخ لا يرحم من صنع المأساة، ولا من وقف متفرجًا عليها.
والضمير الإنساني — مهما تأخر — سيعود ليميز بين من يزرع الحياة ومن يقتات على موت الآخرين.
إنّ صرخة الجياع المحاصرين ليست مجرد وجع عابر، بل مرآة كبرى تُظهر لنا سقوطًا أخلاقيًا عالميًا غير مسبوق. وهي دعوة لاستعادة إنسانيتنا قبل أن نفقدها بالكامل، ولإعادة تعريف القيم التي نرفعها، ولنسأل أنفسنا أخيرًا:
هل ما زال في هذا العالم مكان للعدل… أم أصبح مجرد حبر على ورق؟
22/11/2025 07:05 am 15
.jpg)
.jpg)