كنوز نت - بقلم رانية مرجية


ليان... حين تقع القلوب في امتحان الإنسانية
بقلم رانية مرجية

ليان ليست مجرد فتاة.
هي مرآة صغيرة تعكس قسوة العالم ولينه في آنٍ واحد.
فيها براءة الملاك، وارتباك الإنسان، وتعب الله حين يرى أولاده يخطئون في معنى الرحمة.
في المصنع المحمي، على أطراف المدينة،
تدور الماكينات كأنها تبتلع أنينًا متكررًا.
وفي زاوية بعيدة تجلس ليان،
بابتسامةٍ لا تشبه أحدًا،
وعقلٍ يسير بخطواتٍ متعثرة لكنّ قلبه يركض.
هي لا تعرف من القسوة سوى ما تركه الآخرون في نظراتهم،
ولا تعرف من العالم سوى أنه مكانٌ يطلب منك أن تكون “طبيعيًّا” لتُحب.
لكن ليان... مختلفة،
تعيش بإعاقةٍ ذهنية تطورية، يرافقها صرعٌ يأتي كل أسبوع،
فيخلط بين الغيبوبة والحلم، بين الغياب والعودة إلى الحياة.
المصنع... وطنٌ من الحديد والحذر
يقولون "مصنع محمي"،
لكن من يحمي مَن؟
هل يحمونهم من العالم، أم يحمون العالم منهم؟
بين الضجيج والأنابيب اللامعة،
تغلف ليان ألعابًا بلاستيكية لأطفال لن تعرف وجوههم.
تحب الألوان الزاهية لأنها "تُشبه الأمان" كما تقول.
تعمل بجدٍّ مدهش، لكنّها تنتظر شيئًا آخر:
كلمة. لمسة. نظرة. أي دليل على أنها مرئية.
ففي عالمٍ يعشق الإنتاج أكثر من الإنسان،
تصير الكلمة الطيبة أغلى من الراتب.
الوقوع الأسبوعي في الحب
كل أسبوع تقع ليان في الحب.
لا لأنّها عابثة، بل لأنّها حية أكثر منّا جميعًا.
تحب سامر لأنه أنقذها من نوبة صرع،
وتحب نادر لأنه سألها إن كانت بخير.
تحب الحارس لأنه قال لها "صباح الخير يا وردة".
تكتب أسماءهم في دفترٍ ورديٍّ صغير.
وعندما يبتعدون — وهم دائمًا يبتعدون —
تشطب الاسم بحذرٍ كما يشطب الطفل خطأه في دفتر الواجب.
لكنها لا تشطب الأمل أبدًا.
سارة، زميلتها، تبتسم بحزنٍ حين تقول ليان:
"سامر يحبني، ابتسم لي اليوم مرتين."
فتهمس سارة:
"ليان، سامر متزوج."
فترد ليان ببساطةٍ تفكّك منطق الكبار:
"لكنه قال صباح الخير.
ومن يقول صباح الخير لمن لا يحب؟"
النوبة التي كشفت الحقيقة
في أحد الأيام، سقطت ليان أرضًا.
الماكينات توقفت، الصراخ ملأ المكان،
جسدها يهتزّ كقلبٍ مرهق من الصبر.
هرع سامر إليها، أمسك يدها،
قال بخوفٍ أبويّ:
"كل شيء بخير، يا صغيرة."
حين فتحت عينيها، ابتسمت له.
كانت تلك الابتسامة نذراً من الحبّ، ووعداً بالحياة.
لكن سامر خاف من تلك النظرة،
خاف من أن يتحول الحنان إلى "إشاعة"،
فابتعد.
وبقيت ليان تسأل نفسها:
"لماذا يهرب الناس عندما أحبّهم؟
هل الحبّ خطيئة لذوي الإعاقة؟"
الوصمة التي تقتل ببطء
في المقصف، سمعَت عاملة تقول:
"المسكينة ليان، تتعلق بأي رجل!"
ضحكوا.
لكن أحدًا لم يسأل نفسه:
لماذا يتعلّق الإنسان أصلًا؟
أليس لأن العالم باردٌ جدًا؟

إنّهم يضعون حول المختلفين سياجًا من حرصٍ زائف،
يقولون “نحميهم”، لكنهم في الحقيقة يعزلونهم عن المعنى.
ليان لا تحتاج إلى حماية،
تحتاج فقط إلى أن يُعاملها أحد كبشرٍ لا كملفٍّ طبيّ.
من السقوط إلى النهوض
في المساء، جلست قرب النافذة،
كتبت في دفترها الورديّ:
"يا الله، لماذا لا أفهم القلوب؟
ولماذا لا يفهمون قلبي؟
أنا لا أريد الزواج...
فقط أريد من يقول لي: أنتِ بخير كما أنتِ."
ثم أغلقت الدفتر ونامت على ضوءٍ صغير في قلبها.
في الصباح، ارتدت فستانها الأزرق،
وضعت وردة بلاستيكية في شعرها،
ودخلت المصنع بخفةٍ جديدة.
قال لها الحارس:
"صباح الخير يا ليان."
فابتسمت وقالت:
"صباح النور، لا تقلق، اليوم لن أحب أحدًا...
اليوم أحب نفسي."
ومنذ ذلك اليوم،
لم تعد تقع في الحبّ كل أسبوع،
بل صارت تمنحه بلا خوف.
صارت تزرع في المصنع ضوءًا ناعماً يشبهها.
ضحكتها صارت صلاةً صغيرة،
ووجودها صار تذكيرًا بأن الإنسان لا يُقاس بعقله فقط،
بل بقدرته على الحب رغم كل السقوط.
خاتمة
ليان ليست حكاية فتاة بإعاقة.
إنها مرآةٌ لكلّ الذين لم يجدوا مكانًا في هذا العالم المحسوب بالعقل والربح.
هي اختبارٌ لنا،
هل نرى الإنسان قبل تشخيصه؟
هل نحبّ المختلف بلا خوف؟
كل أسبوع، تسقط ليان في نوبة جديدة،
وتنهض كما تنهض الحياة نفسها.
لا تحمل ضغينة، فقط ابتسامة صغيرة كجناحٍ مكسور،
وتقول بهدوء:
"أنا لا أشفى من الحبّ...
لكنّي أتعلم أن أعيش به."