كنوز نت -  الدكتورة فاطمة ابوواصل إغبارية


العنف المدرسي… حين يغيب الحوار وتضيع التربية بين  البيت والمدرسة والمجتمع
—————————-
طيب الله أوقاتكم بكل الخير، وجمعة مباركة عامرة بالسكينة والرحمة.
قبل أيامٍ قليلة، فجعنا جميعًا بحادثة القتل المؤسفة التي وقعت داخل المدرسة، حادثةٌ لم تهزّ جدران الصفّ فقط، بل هزّت ضمير المجتمع بأسره.
لم تكن مجرّد مشاجرةٍ عابرة، بل مرآةٌ عاكسةٌ لحالٍ نعرفه جميعًا، ونتغافل عنه خوفًا أو تعبًا:
أين ضاع دور الأسرة؟ كيف غابت المدرسة عن رسالتها؟ ومتى تحوّل الغضب إلى لغةٍ يوميةٍ بين أبنائنا؟
حين كتبتُ عن الحادثة قبل أيام، شدّني وعي الناس وحرصهم على الأمن، وأدركت أن المجتمع لا يزال صاحب فضيلة، لكنه يبحث عن طريقٍ آمنٍ لإعادة بناء ذاته.
ومن هنا، جاءت هذه السلسلة من المقالات والدراسة الاجتماعية التي سأقوم بنشرها على دفعات متتابعة، نُحلّل فيها جذور الأزمة محورًا بعد آخر، علّنا نصل معًا إلى فهمٍ أعمق، وحلولٍ أكثر واقعية.
نبدأ اليوم بالمحور الأول:
حين يفقد البيت دفء الحوار، تنطفئ في القلوب أول شرارة للأمان
البيت الذي فقد دفء الحوار وغاب فيه الإنصات، فكبر الأبناء في فراغٍ عاطفيٍّ خطير
————————
الأسرة ودورها في التربية ومنع انسياب الأبناء من المدارس
من الجذر إلى الجرح: أين انكسرت الدائرة التربوية؟
لم يكن مقتل الشاب في المدرسة حادثًا منفصلًا عن الواقع، بل كان عرضًا لمرضٍ اجتماعي عميق بدأ من البيت قبل أن ينفجر في المدرسة. فالعنف المدرسي ليس ابن اليوم، بل هو نتاج بيئة أسرية تراجعت فيها القيم، وغاب فيها الإنصات، وضعف فيها الوعي التربوي.
الأسرة التي كانت يومًا تُسمّى “الخلية الأولى في المجتمع”، فقدت بعض وظائفها التكوينية، فاختل التوازن بين الصرامة والتفاهم، وبين الحماية والاستقلال، فخرج الأبناء إلى الشارع والمدرسة دون درعٍ نفسي ولا بوصلةٍ قيمية.
أولًا: أين الخلل في الدور الأسري؟
 1. تفريغ التربية من معناها الإنساني
كثير من الأسر اليوم تُنشئ أبناءها بالوسائل لا بالمشاعر. تُقدّم المأكل والملبس والتعليم، لكنها تُهمل “التربية الوجدانية” القائمة على الحوار والتفاعل والتعاطف. فيكبر الطفل وهو يعرف ما يملك، لا من يكون.
 2. تبدّل مفهوم السلطة الأبوية
بين نموذجٍ تسلّطي قديمٍ لا يسمع، ونموذجٍ مفرطٍ في الحرية لا يوجّه، ضاع التوازن. فبعض الآباء يمارسون القهر باسم التربية، وآخرون ينسحبون باسم الثقة. والنتيجة: أبناء بلا حدود واضحة، ولا إحساسٍ بالمسؤولية.
 3. الطلاق العاطفي داخل الأسرة الواحدة
ليس الطلاق الورقي وحده ما يهزّ كيان الأبناء؛ بل ذلك الطلاق الصامت حين يعيش الأهل تحت سقفٍ واحدٍ بلا تواصلٍ ولا دفء. هذا المناخ يولّد التوتر، ويزرع العدوانية، ويجعل المدرسة امتدادًا لصراعٍ نفسيّ داخلي.
 4. انشغال الأهل بالنجاح المادي
الآباء يعملون ليل نهار لتأمين المستقبل، لكنهم ينسون أن المستقبل يبدأ من الحاضر. فكل ساعةٍ يغيب فيها الأب أو الأم عن مشاركة وجدان الأبناء، تترك في داخلهم مساحةً للفراغ والاغتراب، تُملؤها لاحقًا الشوارع والمواقع الإلكترونية.
 5. ضعف المتابعة المدرسية والتربوية
المدرسة ليست جهة معزولة عن الأسرة، لكن العلاقة بين الطرفين اليوم تراجعت. لم يعد التواصل دوريًا ولا الحوار قائمًا حول سلوك الطالب، بل تحوّلت المدرسة إلى “مؤسسة أكاديمية” فقط، لا شريكًا في بناء الإنسان.
 6. المصلحة الذاتية للأهل
في كثير من البيوت، تُدار القرارات بما يريح الأهل لا بما يُصلح الأبناء. يُترك الطفل أمام الهاتف ليتلهّى، أو أمام الألعاب الإلكترونية لينشغل، في حين يُفقد تدريجيًا التواصل العاطفي الذي يصنع الحصانة النفسية.
ثانيًا: مظاهر الخلل التربوي داخل البيت وانعكاسها في المدرسة
 1. غياب الضبط الانفعالي:
الطفل الذي لا يتعلم في البيت كيف يعبّر عن غضبه بالكلمة، سيفعلها في المدرسة باليد.
 2. انعدام الحوار الأسري:
حين يغيب الإصغاء، يتحوّل الصمت إلى كبت، والكبت إلى انفجار.
 3. ضعف النمو الأخلاقي:
القيم لا تُلقّن نظريًا بل تُمارَس. وحين يرى الأبناء في البيت سلوكيات متناقضة (قسوة، كذب، تنمّر)، فإنهم ينقلونها إلى المدرسة دون وعي.
 4. تراجع الانتماء العاطفي للأسرة والمدرسة معًا:
من لا يشعر بالأمان في بيته، لن يشعر بالانتماء في مدرسته. فيصبح الانفلات السلوكي نوعًا من التعبير عن الضياع الداخلي.
ثالثًا: من التشخيص إلى العلاج – كيف نعيد للأسرة دورها التربوي؟
 1. تربية الوالدين قبل الأبناء
نحتاج إلى برامج مجتمعية تُعيد تأهيل الأهل للتربية في عصرٍ رقميّ سريع التغيّر. فالتربية ليست غريزة فحسب، بل علم ومهارة وتواصل مستمر.
 2. إحياء ثقافة الحوار الأسري
الحوار المنتظم بين أفراد الأسرة ليس ترفًا، بل وقاية من الانزلاق. ساعة أسبوعية تُخصّص للحديث دون هواتف، تُعيد الدفء والثقة.

 3. دمج المدرسة مع البيت في مشروع تربوي واحد
يجب أن تكون هناك جسور دائمة بين المعلّم والوالد، وأن تُبنى شراكة حقيقية في فهم شخصية الطالب لا مجرد متابعة العلامات.
 4. الاهتمام بالتربية الوجدانية والروحية
تربية الضمير والرحمة والتعاطف يجب أن تسبق تربية العقل. فالأبناء الذين يُربّون على قيم الحبّ والتسامح لن يحملوا السلاح على زملائهم.
 5. إعادة تعريف النجاح العائلي
النجاح ليس في درجات المدرسة ولا في الوظائف، بل في أن نخرّج أبناء أسوياء قادرين على ضبط أنفسهم، يحبّون الحياة ويحترمون الآخرين.
 6. إنشاء وحدات دعم نفسي وتربوي في المدارس
بالشراكة مع الأسر، لتقديم الإرشاد المبكر والتدخّل عند مؤشرات العنف أو الانسحاب السلوكي.
رابعاً : نحو بيتٍ يقي المدرسة من العنف
حين تعود الأسرة إلى دورها الأول — أن تكون الحاضنة الأولى للحوار والحبّ والانضباط — سينخفض العنف، لأن المدرسة ستستقبل أبناءً محصّنين عاطفيًا لا تائهين.
البيت ليس جدرانًا، بل هو أول درس في الإنسانية، وإذا فشل هذا الدرس، فستفشل كل الدروس بعده.
ختاما ً اقول :
ومع أنّ البيت هو البذرة الأولى للتربية، فإن الشجرة لا تكتمل دون ظلّ المدرسة.
فكم من ابنٍ تربّى على المحبة في بيته، ثم ضاع في فوضى المدرسة القاسية؟
وكم من طالبٍ كان يبحث عن قدوةٍ فوجد نظامًا جامدًا لا يسمع، ولا يشعر، ولا يُعلّم إلا الامتحان؟
إنّ البيت يزرع، لكن المدرسة تُسقي أو تُهمل، وهنا تتحدّد ملامح الجيل القادم.
ومن هنا ننتقل في المحور التالي إلى المدرسة بين التربية والتعليم:
كيف غابت رسالتها التربوية خلف جدران الدرجات؟
وكيف نعيدها إلى دورها الطبيعي كحاضنةٍ للإنسان قبل أن تكون مصنعًا للعلامات
واخيرًا
وحدي لا أستطيع التغيير… معًا، حتى أصغر خطوة، تصنع الفرق. شاركوا الوعي، لنصنع الأمل.
  •  الدكتورة فاطمة ابوواصل إغبارية