.png)
كنوز نت - نمر سعدي / فلسطين
الفنَّان التشكيلي جميل عمريَّة: رسَّامُ الذكريات
نمر سعدي / فلسطين
عرفتُ الفنَّان التشكيلي الفلسطيني المبدع الأستاذ جميل عمريَّة ابن قرية إبطن الواقعة في الجليل الأسفل قبل أكثر من عشر سنوات، حارساً بريشته لتراث الأجداد، نشيطاً شديدَ الاهتمام بالأدب وحاضراً في الأمسيات الثقافيَّة والفنيَّة، مخلصاً لفنِّهِ ولرسوماتهِ ولموهبته الحقيقيَّة المتدفِّقة منذ أكثر من نصف قرن، وقد أهداني مؤخراً كتابهُ السيرذاتي الموسوم بعنوان "رحلتي مع الفنِّ والحياة" فوجدتُ فيه روح الإنسان المتوثِّبة والمتلهِّفة للطموح من خلالِ قصصه العذبة المنسوجة بعناية ودفق شعوري متميِّز، في هذا الكتاب يتجاور حب الوطن مع التاريخ والجغرافيا والفن، فمن بين سطورهِ تطلُّ صلابة العامل المكافح ورهافة المتأمِّل في جوهرِ الحياةِ وذكرياتِ الماضي، ومن ذاكرة الفتى المشغوف بالفن والرسم والألوان تتسلسلُ الأحداث وتتوالى الحكايات وتمتدُّ دروب السفر بين ربوع الوطن، فمن القدس إلى الجليل، ومن الكلمة إلى الريشة المغموسة بألوان الزمن الجميل، ومن عمق نظرة الفنَّان التشكيلي إلى تحليق الكاتب السارد في فضاء اللغة والذكريات البعيدة. والحقيقة أن هذا النوع من كتابة اليوميَّات عبر سرد قصصي شفَّاف يستهويني ويشدُّني منذ فترة ليست بالقصيرة لأنَّ فيه من التجرُّدِ الروحي والمكاشفات العذبة والمدهشةِ ما فيه، فانسياح الذكريات المتراكمة لا يحدُّ من روعة السرد ولا يقيِّدُ جمال اللغة ولا ينقص من سلاستها وعذوبتها وانسيابيَّتها، وأجمل ما وقع في نفسي عبارته التي يبدأ بها كتابه بصدق ذاتي وبراءة طفوليَّة تجمعُ ما بين حلم الصبا ورشاقة اللغة الصافية "كنتُ في الرابعة عشرة من عمري عام 1970. كنتُ أخربشُ وأرسمُ على الحيطان وعلى ألواحِ الصفيحِ والزِّنك وحتى على ملابسي" يا لها من عبارات سحريَّة تحبس الأنفاس، وتجليَّات رائعة تذكرِّنا بمطالعِ الكتب السيرذاتية والروايات الخالدة وأذكر على سبيل المثال لا الحصر مطلع رواية الكاتب التشيكي فرانز كافكا الفذَّة "التحوُّل" :"عندما استيقظ غريغور سامسا من نومه ذات صباح عقب أحلام مضطربة، وجد نفسه قد تحوَّل فى سريره إلى حشرة عملاقة". ويحيلني وقع هذا الصدق الفنِّي إلى مطلع رواية أخرى هي "الغريب" للكاتب الفرنسي ألبير كامو ""ماتت أمي اليوم. أو ربما بالأمس، لا أدري. وصلتني برقية من الملجأ: "الأم توفيت. الدفن غداً. تفضلوا بالحضور".
في لوحات الأستاذ جميل عمريَّة تلمس تراب فلسطين مجبولاً بضوء التاريخ، تشمُّ عبقها وروائح نباتاتها وعبير قهوتها، لا تكاد تخلو لوحة واحدة من حضور فلسطين فيها بكلِّ ألقها وأنوثة نسائها وجمال زهورها ورباها وجبالها وسهولها، خيامها وأبنيتها الممتَّدة حتى عنان الغيم.
أوَّل ما ألهب شعور الفنان الشاب جميل عمريَّة هو مجسَّم قبَّة الصخرة المشرَّفة، فراح يحاول نقشه طوراً ونحته تارةً أخرى وصبَّهُ فيما بعد في قوالبَ من الجبص وفي قوالب معدنيَّةٍ بعد ذلكَ إلى أن اكتمل له العمل في النهاية. ويأخذنا الكاتب في مسارب السرد بسلاسة إلى بداياته في تلمُّس طريق الفن والإبداع فيصفُ صعوبة أن تكون فنَّانا تشكيليَّاً أواخرَ السبعينيَّات في ظلِ عراقيل الحياة وشحِّ الإمكانيات الماديَّة وانشغال الناس بتأمين لقمة العيش. ويستطرُ واصفاً لقاءهُ مع الفنان الحيفاوي المتألق عبد عابدي في مكاتب جريدةِ "الاتحاد" الحيفاويَّة" وكيف أخذ بتشجيعه ودعمهِ على المضيِّ قدماً في طريقِ الفن من خلال بعض التوجيهات. راسماً صورةً من أجمل ما تجودُ بهِ الندِّيةِ الإيجابيَّة في مجالات الإبداع كافَّةً.
يصفُ الكاتب الحيفاوي المرموق المحامي الصديق حسن عبَّادي الأستاذ الفنَّان جميل عمريَّة بعبارات مختزلة ولكنها تعبِّر أصدق تعبير عن تجربة ناسكِ الريشةِ والألوان "يعملُ جميل في سكبِ المعادنِ لتكون هواية ومهنة وهو يمارسُ الفنَّ التشكيليَّ على ألوانِه منذ عام 1972، يستعملُ في لوحاتِه ألواناً زيتيةً على الجلدِ، وألوانَ إكريليك، وألوان كيراميك على خرصينة، واكريليك على كنبس، وألوان زيت على قماش، وألوان مائية على ورق، ورصاص على جلد، وألوان مائية على كرتون، ويمارس النحت والسكبَ والصبَّ من الألومنيوم والبرونز والنحاس"، ويضيفُ بلغةٍ عذبة في نفس مقاله "رسم جميل بريشته الأرض والخيمة، الأمومة والاحتضان، القرية والفنار، البداوة ومضاربها والجذور، المضافة وحياة البادية وقرى الضيوف، خبز الشراك والقهوة".
فيما يتطرَّقُ الشاعر والناقد الفلسطيني المبدع فراس حج محمد إلى تجربة الفنَّان جميل في مقالةٍ تشكِّلُ إضاءة ضافية ونوعيَّة على شغف كبير بالتراث الفلسطينيِّ يسكن روحه منذ نعومة أظفارهِ وهي تتلمَّسُ طريقها بأناةٍ وصبر في عالم الفنِّ التشكيليِّ "تُظهر لوحات جميل عمرية المستوحاة من الحياة البدوية، مثل "خبز الصاج" و"القهوة" و"المخيض في الشكوة"، عمق جذوره وأصالته. يمثل هذا التراث جزءاً لا يتجزأ من الهوية الفلسطينية التي يحرص عمرية على إحيائها وتوثيقها. قصة رحيل عائلته من "البرّاكية" إلى البيت الجديد عام 1969 تُظهر بداية وعيه بمفهوم "الرحيل" و"العودة" على المستوى الشخصي، مما سيتطور لاحقاً إلى قضية وطنية شاملة". ويصفُ في المقالةِ ذاتها حضور المرأة الفلسطينيَّة في لوحاتهِ التشكيليَّة "تعتبر المرأة في لوحات جميل عمرية رمزاً للوطن والصمود والأمومة والذاكرة كما هي في الشعر مثلا عند رموز الشعر الفلسطيني. كما تظهر شجرة الزيتون رمزاً للجذور والهوية والصمود الفلسطيني. يربط عمرية بين هذه الرموز الثلاثة ليخلق "ثالوثاً مقدساً" في فنه، يعكس استمرارية الحياة رغم النكبات. إن هذا الربط يُظهر رؤية عميقة للفن كأداة للحفاظ على الهوية والتاريخ، فكل رمز من هذه الرموز يروي قصة بحد ذاتها، وهي معاً تروي قصة شعب كامل".
أتمنَّى للفنَّان جميل عمريَّة دوام التألق والنجاح في مسيرته الفنيَّة.
31/10/2025 06:44 am 31
.jpg)
.jpg)